منبر الرأي: الصحفي الريفي بهولندا محمد امزيان يكتب “الزلزال”

2 فبراير 2016آخر تحديث :
منبر الرأي: الصحفي الريفي بهولندا محمد امزيان يكتب “الزلزال”

محمد أمزيان
بعض الزلازل تحدثها “التصفيقات والزغاريد”، وتُخلّف آثارا لا تراها إلا تلك الأعين التي هدّها السهر وهي ترقب فجرا تأخر، ثم تمضي نحو المغيب تاركة ذكرى عبثية بلا طعم ولا رائحة. وبعض الزلازل تحدثها الطبيعة، وكأنها تريد أن تُذكّرنا بأشياء تأبى أن تغادر وجداننا وذاكرتنا الجماعية. ترتجف القلوب، فنحس بضيقها في الصدر. نتذكر تلك الأماكن التي تعلمنا فيها الشقاوة رغم شقاء الحياة. نتذكر الأحباب والأصدقاء الذين تركناهم وراءنا حينما استسلمنا لغواية المنفى باختيار.

زلزال الريف من النوع الذي يهز الذاكرة، فيحيي فينا صورا ظنناها ماضٍ دفناه. نتذكر رائحة الموت، وللموت رائحة غشيمة. نتذكر المعدن النادر الأصيل لجنود الخفاء وهم يفتحون قلوبهم المكلومة أمام الضحايا؛ يتقاسمون معهم شظف ما بقي في الحياة من حياة. ونتذكر، ويا ليتنا لم نتذكر، حالة كائنات غُبارية غريبة تمتص آلام من بقوا تحت الأنقاض.

صحيح أن زلزال يناير (2016) يختلف عن زلزال فبراير (2004)، لأنه لم يخلف قتلى ولم يجعل المآقي تدمع، إلا أن غور جرحه لا يحس به إلا من يتّمه العجز وأثقلت كاهله شماتة الزمن. وكالعادة تأخر إعلامُنا في إعلامِنا، راجين له بياتا أبديا. وكالعادة التجأنا إلى إعلام غيرنا لتطمئن قلوبنا، فهل اطمأنت قلوبنا؟ أشعر بغصة في الحلق وبرغبة عارمة في عض خاصرة الزمن الذي أوغل في الشماتة.

صباح يوم الزلزال، اتصلتُ لأستقصي بعض الأخبار. أبلغني محدثي أن المقاهي غصت عن آخرها منذ أن دق الزلزال على أبواب النائمين. حتى المساجد تكاثر زوار فجرها بشكل غير مسبوق. والدتي (84 سنة) قالت لي عبر الهاتف: “لا تخف علي. كنت صاحية حينما ارتج السقف. نطقتُ الشهادتين جهرا ثم عدتُ لأنام”. كدت أسألها: هل أنت خائفة؟ إلا أنها سبقتني وأجابت، وكأنها قرأت السؤال في ذهني. “لم أخف. ومم أخاف؟ إذا جاء أجلي فأنا جاهزة”.
المؤلم في المشهد ليس هو انتظار الناس للأجل أو الخوف من الموت أو سقوط أركان البيت، وما إلى ذلك من أمور يؤمنون بأنها “قضاء وقدر”. المؤلم هو إحساسهم بأنهم لا يعنون شيئا في نظر من يدعي أنه مسؤول عنهم. وما يزيد من وطأة الحسرة والألم أكثر، أن تقرأ وتسمع أن سكان مليلية التي نعتبرها “محتلة”، تلقت الاهتمام الرسمي المطلوب منذ اللحظات الأولى، وزارها مسؤولون حكوميون من العاصمة البعيدة ليطمئنوا على صحة أهلها ويستفسروا عن حاجياتهم. فهل الرباط أبعد من الحسيمة والناظور من بُعد مدريد عن مليلية؟ بعض المواقع الرقمية المغربية أوردت أن هواتف المسؤولين المغاربة أصابها الخرس طيلة نهار الاثنين. من المخجل حقا أن نضطر لعقد مثل هذه المقارنات.

في الثمانينات كنت طالبا في جامعة فاس، وكنت متعودا على الفطور في مقهى يديره شخص يبدو من سنه أنه عايش الإدارة الفرنسية قبل الاستقلال. ذات صباح كان جالسا يستعيد ذكريات فاس أيام الفرنسيين مع صديق له. كان موضوع الحديث هو أزمة المواصلات. إلى يومنا هذا ما زلت أتذكر جملة فاه بها في غمرة حسرته وخيبة أمله: “في أيام الفرنسيين إذا تأخرت الحافلة دقيقيتن تقوم القيامة، واليوم تتأخر ساعات ولا من يهتم”.

 

أهذه هي المسؤولية؟!

حينما يتوجب على الدولة (العميقة أو الظاهرة) أن تكون بجانب المواطن، تختفي وراء أسوار العتمة. وحينما يكون لزاما عليها أن تختفي، تظهر بكامل قوتها وعنفها. المواطن في حاجة لمن يسمع له حين يتألم، لا لمن يكتم أنفاسه.

*ملاحظة: المقال كُتب يومين بعد الزلزال

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


التعليقات تعليق واحد
  • يوسف خراط
    يوسف خراط منذ 8 سنوات

    تعليم اللغة الهولندية عند أول أستاذ للغة الهولندية في المغرب. هنا في الناظور عند يـــوسف خــراط. Tel.: 0614003986

لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق