تحقيق رائع للباحثة بشرى بلعلي : أكثر من نصف مرضى السرطان بالمغرب ريفيون و الساكنة تريد مستشفى جامعيا

12 فبراير 2017آخر تحديث :
تحقيق رائع للباحثة بشرى بلعلي : أكثر من نصف مرضى السرطان بالمغرب ريفيون و الساكنة تريد مستشفى جامعيا

الباحثة بشرى بلعلي

ما من أحد يستهين بمشهد الموت، أو لا يُبالي به، أو يُثير لديه شماتة الغُلاة، إلا إذا كانت إنسانيته غير مكتملة، لكن الإحساس بالموت درجات لدى أي منا، فالوجع الذي تكابده حين يموت قريبٌ من الدرجة الأولى يفوق الوجع الذي يُسببه موت قريب من درجةٍ أبعد، والألم الناجم عن موت قريب أو عزيز أيًا كانت درجته يفوق ألم مشهد الموت لشخصٍ لا تعرفه، والحزن المكتنف لجوانحك حين يموت أحد أبناء وطنك أو أكثر دقة أحد أبناء منطقتك يفوق الحزن العابر لموت أجنبي لا يُشاركك نفس الهوية وهموم المنطقة ووحدة المصير، والوجع الذي تكابده حين يموت أحد هؤلاء بموت طبيعي يختلف عن موت تعلم أنه نتيجة فعل فاعل ومن مخلفات المحتل، أو نتيجة تهميش وإهمال متعمد أو لامبالة المسؤولين  من الممكن تفاديه.

أقول هذا تعقيبًا على استمرار مسلسل الموت بمرض السرطان، هذا المرض وما يسببه من هلع وفزع وخوف لأبناء المنطقة بمجرد سماع اسمه، والذي يطلق عليه أحيانا إسم المرض الخبيث أو اللعين او الموت البطيء، الذي يشمل العديد من الإصابات العضوية والوظيفية إبتداءًا من الإصابات الحميدة، من أقلها فترة لأطولها فترة، ومن أكثرها قابلية للشفاء إلى أكثرها استعصاء للشفاء، بعضها يمكن مقاومته والقضاء عليه أما بعضها الآخر فيمثل تحديا صعبا ليس من اليسر مقاومته والحد من خطورته.

فتصاعد أعداد شهداء الخبيث، حقيقة نصطدم بها دومًا دون أن توقظ مسؤولينا من غفوة ووهم الحياة، ودون أن تحرك شعرة واحدة في رأس الإهمال، أرقام ثم أرقام ثم أرقام ، وما من نهاية!

* إحصاءات تستغيث وأرقام تصرخ بصوت عال

هما فاطمة وإلهام، وقبلهما رضوان وكريم والآن سعيد ومحمد  وغدا ربما (أنا وأنت)   كلهم مجرد أسماء ضمن قائمة طويلة لضحايا السرطان المثير للجدل كأنه لعنة تزور منطقتنا من حين لآخر  وتحولها بين الفينة والأخرى إلى مآتم متسلسلة.

فمنطقة الريف تعرف حالات كثيرة من الأمراض الخطيرة والخبيثة، وخاصة الانتشار المفرط لمرض السرطان في الآونة الأخيرة، وهذا ما تسجله الإحصائيات التي تقدمها بعض المراكز الحقوقية والصحية على المستوى الوطني.

يؤكد منتدى حقوق الإنسان لشمال المغرب، أن نسبة إصابة سكان الريف بالسرطان ناهزت 60 في المائة من معدلات الإصابة بهذا الداء في المغرب مقارنة مع باقي مناطق البلاد، بينما “التجمع العالمي الأمازيغي”، وهو منظمة أمازيغية تبنت ملف الغازات السامة، يذهب إلى أن 80 في المائة من حالات الإصابة بالسرطان المعالجة في مستشفى الرباط قادمة من منطقة الريف تحديداً، وهو ما يوافق بحث الدكتورة وفاء أقضاض لنيل درجة الدكتوراه، والذي انتهى في عام 2000 إلى أن 80% من الإصابات السرطانية وخصوصاً الدرقية آتية من شمال المغرب.

بالمقابل يفند مصدر مسؤول عن قسم أمراض السرطان من داخل مستشفى ابن سينا بالرباط، في تصريح ، هذه الأرقام التي تتحدث عن كون 80 في المائة من المرضى الذين يعالجون بالمستشفى يتحدرون من الريف، مبرزاً أن الخريطة الجغرافية للمرض مختلفة، “ولا توجد منطقة معينة أكثر إصابة من أخرى في البلاد” على حد قوله.

وبحسب دراسة حديثة لجمعية “سلمى لمحاربة داء السرطان”، التي تشرف عليها عقيلة العاهل المغربي الملك، محمد السادس، فإنه يتم تسجيل حوالي 30 ألف حالة جديدة كل عام، مصابة بالسرطان في المغرب، لكن لا توجد أرقام رسمية بشأن عدد حالات المصابين بالسرطان في مناطق الريف بالبلاد.

لقد أشرنا إلى بعض الأرقام و الإحصائيات التي صدرت من مصادر حقوقية ومراكز صحية ولكن تتفاوت أرقام الإحصائيات التي تقيس هذه الظاهرة بين مصدر وآخر، وعدم تقاربها ودقّتها، وبثّ أرقامًا تسبّب تشويشًا للمتلقّي ولاتنقل الصّورة الحقيقية، ما يشكل عائقًا في إيجاد الحلول الجذرية لهذا المرض، وحتّى لو سلمنا جدلا أنّها حقيقية فهي غير كافية فعلا  لتحديد نسبة الوفيات بالسرطان بالمنطقة، لذلك تُقلّل الساكنة بالريف من شأن هذه الأرقام، وتطالب بتقارير وإحصائيات رسمية ودقيقة.

هذا ما أكده الأستاذ “عمر لمعلم” رئيس جمعية ذاكرة الريف، في ندوة تطوان تحت عنوان: “الحرب الكيماوية ضد الريف، 29 أبريل 2010″، حيث جاء في جزء من مداخلته: “لحد اليوم لم يتم تقديم أرقام أو دراسات علمية فيما يخص انتشار الأمراض السرطانية في الريف والبحث عن أسبابه الحقيقية”.

فيما أكد البعض بأن توزيع انتشار مرض السرطان يختلف من منطقة لأخرى، حيث توجد مناطق في الريف يتعرض سكانها للسرطان أكثر من مناطق أخرى، وأيضا يختلف من عائلة لأخرى، ففي مقطع فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي يصرح فيه شاب ريفي بأنه فقد عائلته بأكملها بمرض السرطان ولم يبقى من العائلة سواه، ويقول بتأثر “لقد قمت بنفسي بحفر قبر تلو قبر لعائلتي”،  ويضيف “إنني متأكد بأن مصيري سيكون مثل عائلتي ودوري سيأتي قريبا لا محالة”.

وهذا ما أكده البروفيسور نجيب الوزاني أيضا في حوار سابق له ، بحيث يقول “لقد قمت ببحث ودراسة حول سرطان الحنجرة الذي أصيب به أغلب سكان قبيلة “أربعاء توكورت”، وتوجد هناك مقبرة مليئة بضحاياه. ويضيف “وقد نشرت بحثي حول هذا الموضوع في مجلة علمية ألمانية، وبذلك جاءت لجنة علمية متخصصة من هناك لتقوم بالتقصي والدراسة حول هذا النوع من السرطان”.

لذا تأمل الساكنة أن تأخذ قضية الانتشار المفرط وبشكل واسع للأمراض السرطانية في الريف حصتها من الدراسة من طرف الأكادميين، ومن طرف لجن متخصصة متكونة من أطباء ومتخصوصون في البيئة وكل من له علاقة ودراية بهذا الشأن، لتقوم بالدراسة والبحث والتقصي حول أسباب الانتشار، و هل ما يروج حول اختلاف انتشار المرض من منطقة لأخرى ومن عائلة لأخرى حقيقة مؤكدة، فإن كانت كذلك فما هي أسباب ذلك؟ فهل مثلا الأماكن التي تعرضت للقصف المباشر للغازات السامة أكثر تعرضا للسرطان؟ وأيضا لماذا تتعرض عائلة لهذا المرض اكثر من أخرى  فهل هو وراثي جيني أم بيئي…؟ ولربما بمعرفة الأسباب  تكمن الوقاية أو العلاج أو التخفيف من انتشاره.

* غياب المستشفى وارتفاع التكاليف زاد من معاناة الساكنة مع الخبيث 

الساكنة تعاني منذ عدة سنوات وضعا متأزما لعدم توفر المنطقة على مستشفى الأنكولوجيا، مما يجبر مرضى السرطان إلى السفر بحثا عن العلاج، في مدن أخرى، إما في مدينة فاس، أو وجدة أو الرباط، وبذلك تزداد تأزم وضعية المرضى، وبالخصوص عند الحالات المعوزة، والتي لا تستطيع التنقل للبحث عن العلاج في مناطق أخرى.

محمد هو أحد المصابين بمرض السرطان الذين التقينا بهم « بدأت معاناته عندما بدأ يحس بآلام مبرحة في بطنه، قاده إلى شد الرحال من منطقته القروية، إلى مدينة الحسيمة، فشكّ الاطباء في حالته الصحية، وطلبوا منه إجراء تحاليل طبية، فبعد رجوع التحاليل من خارج المغرب وظهور النتيجة، تفاجأ محمد بأنه مصاب بسرطان الأمعاء، ليبدأ رحلات علاجية متتالية ومتعبة ومكلفة نحو مدينة فاس.

يروي لنا محمد رحلته الطويلة في طلب العلاج، فيقول: «تداينتُ لأغطي مصاريف السفر والدواء، راجيًا أن أعالج من هذا المرض الخبيث، مع أنني أعرف أن نسبة النجاة منه ضئيلة «

ويتابع «إنها محنة ما بعدها محنة فقد أرسلوني للمعالجة في مدينة فاس فكان هذا أول سفر لي خارج منطقة الريف، بالإضافة أني لا أتقن العامية المغربية، ولم أستطع ملاقاة الطبيب إلا بصعوبة رغم كل محاولاتي، وبعد أن طلب مني إداريو المستشفى العودة في موعد آخر مع حزمة أوراق لا أعلم طريقة تحضيرها،  وبعد زيارات أخرى متكررة فكما ترون لم أشف إلا قليلًا، يعني مازالت محنة حلقات العلاج المتعبة لم تنتهي بعد.».

يتمنى مُحمد، كغيره، لو أن مُستشفى خاص بالسرطان موجودا بالمنطقة ويكون مُجهزا بكل مستلزماته وطاقمه الطبي، ليعالج فيها الناس مجانًا ويضيف: “أتمنى أن يوفروا لنا مستشفى السرطان في المنطقة، حتى لو لم تكتب لنا النجاة من المرض الخبيث، على الاقل سنموت دون عناء وشقاء”.

هكذا لخص لنا محمد المعاناة التي يعيشها مصابي السرطان في المنطقة، ولا تمثل قصته سوى واحدة من آلاف الحالات الأخرى، التي يتعرض فيها مرضى السرطان في المنطقة من معاناة السفر، وهذا ما حصل مع فاطمة أيضا، التي غرقت في دوامة من الرحالات والسفر إلى مستشفيات في مدن مغربية مختلفة من أجل إجراء عملية جراحية لاستئصال ثديها المصاب بالسرطان، فتقول : “أنفقت الكثير من المال بين الزيارات والدواء والعملية الجراحية، وفي الأخير لم أشف تمامًا، بعد أن علمت أن المرض الخبيث قد انتشر”.

عدم توفر مستشفى أزّم وضعية مرضى السرطان في الحسيمة، خصوصا من لا يقوون منهم على تحمل أي تكاليف إضافية أو مشاق السفر، وفي هذا الشأن يصرح لنا طبيب مختص “إن المصاب يتعرض خلال العلاج إلى آلام لا تكاد تحتمل بالإضافة إلى تعرضه إلى نزف غير عادي، النسيان، النعاس، الإغماءات، وقد يخلق الكثير من التعب والإرهاق لدى المريض، ويتابع “لذا فمن يأتي للمعالجة من مناطق بعيدة يزيده السفر معاناة وألمًا”.

هذه الأوضاع المادية والمعنوية جعلت عددا منهم يفكر في الاستغناء عن العلاج، حسب مصدر مطلع.

من جهة أخرى، تعرف أسعار أدوية السرطان والعلاج ارتفاعًا خياليًا، إذ  يكشف تقرير برلماني أن أثمنة الأدوية في الصيدليات المغربية، تزيد عن مثيلاتها في تونس بنسبة %20، وتفوق نظيراتها في فرنسا بنسبة %70، وقد يتضاعف الرقم إلى %6000 في حالة الأدوية المطلوبة لبعض الأمراض الخطيرة كالسرطان، رغم أن الدخل الفردي للمواطن الفرنسي، يضاعف نظيره المغربي، بحوالي عشرين مرة، فهناك أدوية للسرطان تتجاوز أثمنتها 11000 درهم، وجميع الادوية المخصصة لهذا المرض قيمتها لا تنخفض عن 1000 درهم حسب الأنواع و الماركات التجارية.

من ناحية أخرى، انتقد حقوقيون طلب البرلمان المغربي رفع القيمة المضافة على أدوية السرطان إلى 10 في المائة، بدل نسبة 7 في المائة الحالية، مستغربين كيف لا يدعو النواب إلى خفض هذه النسبة أسوة بفرنسا، التي تبلغ فيها النسبة 2 في المائة، وتونس التي تنعدم فيها إلى الصفر في المائة.

“الأدوية باهظة الأثمان، ونحن نعاني ضيق اليد”، جملة تتكرر لدى مرضى الداء المنحدرين من مناطق مختلفة من الريف القروية منها بالأساس، لعدم توفر المساعدة اللازمة لهم، بسبب عدم حيازة البعض لبطاقة المساعدة الطبية للمحتاجين “راميد”، فيما يشكوا مرضى آخرين يتوفرون على بطاقة “راميد” لكنهم لا يحصلون على دواء للسرطان دائما، والذي تصل كلفته إلى حوالى 3500 درهم، ويقول متتبعين إن نظام الرميد قد تعثر بسبب غياب التمويل والوسائل اللوجسيتية والطبية اللازمة، لتقديم الخدمات الصحية، فيما لم يتجاوز تخفيض الأثمنة، الذي اقتصر على %60 فقط من الأدوية، دولارًا واحدًا، وهو ما يبقي سعر الدواء مرتفعا، في كل الأحوال.

ووصف مصدر حقوقي أن طريقة حصول مرضى السرطان على العلاجات اللازمة من المستشفيات المغربية بـ”البيروقراطية الإدارية”، حيث “لا تخضع جميع الإدارات لمنح المرضى الأدوية اللازمة عبر وصل بطاقة المساعدة الطبية راميد، بل تطالب بالبطاقة التي يتطلب الحصول عليها أشهراً، الأمر الذي يدفع المرضى إلى اقتناء أدوية حصص العلاج الكيماوي بمعدل مليوني سنتيم للحصة الواحدة”.

وأمام هذا الوضع دعا نشطاء وأطباء حقوقيين، وزارة الصحة المغربية، إلى الاستفادة من التجربة الهندية والبرازيلية في المجال، قائلين: “بالإمكان استيراد أدوية جنيسة للسرطان منها بتكاليف أقل من الحالية من غيرها من البلدان قد تصل إلى 2000 درهم مغربي فقط”، وفي نفس الوقت داعيين الشركات الحالية المصنعة لأدوية السرطان إلى مراجعة الأسعار التي تضعها أمام المواطنين المغاربة والتي تتجاوز قدرتهم الشرائية الضعيفة.

لكن هذا القرار سيتصدى بالتأكيد للوبيات أصحاب شركات تصنيع الأدوية والقطاع الصيدلي، حيث ساهموا بشجعهم في غلاء أدوية السرطان الذي يحقق لهم أرقام ربح خيالية، بل إن هناك مختبرات معينة تحتكر منذ عقود قطاع توزيع الأدوية والمعدات الطبية المتعلقة بهذا المرض الخبيث، كما تقوم بمنع وعرقلة انتاج وتوزيع أدوية منافسة للدواء الأصلي، حيث يخافون على أرباحهم من التأثر و التراجع، و يتم بذلك عرقلة أي جهد ومنع أي جهة من المس بهذه اللوبيات المحتكرة للقطاع مما يرغم المواطنين البسطاء على شرائه بأثمنة تفوق قدرتهم الشرائية.

بالإضافة إلى أن نسبة المؤمنيين بالريف نسبة ضئيلة جدا لأن أغلب السكان يشتغلون بأعمال حرة ولا يتوفرون على وظائف عمومية، وبذلك تكاليف العلاج يتحملها المواطن الذي لا يتوفر على أي تأمين صحي والأكثر من ذلك أن أغلب هؤلاء المرضى ينحدرون من أسر فقيرة، حيث تصل نسبة الفقر في جهة الريف –الحسيمة- في المجال القروي إلى %40، و20% في المجال الحضري تقريبا، مما يحتم على هؤلاء المرضى الإلتجاء إلى بيع ممتلكاتهم كالمواشي و الأراضي أو طلب العون من المحسنين من أجل أداء تكاليف العلاج، مع العلم أن هذا المرض يتطلب في بعض الحالات المتقدمة مابين حصتين إلى أربعة حصص في الاسبوع.

وتعكس رواية زهرة (مصابة بسرطان الرئة وفقيرة وتقطن إحدى البوادي النائية في الريف) اليأس والتهميش الذي يعيشه أغلب الأشخاص الذين يقطنون في الجبال والبوادي، حيث تقول: «نعاني هنا من قلة الإمكانيات، الفقر، العزلة.. حيث لا يوجد لدينا ولو مركز صحي متواضع نلتجئ إليه للإسعافات الاولية على الأقل لنقي أنفسنا من أمراض كثيرة تنتشر بيننا وخاصة أطفالنا « ، وتضيف » إنه اغتيال علني لآدميتنا بكل ما تحمله الكلمة من معاني».

مصاب آخر ويعاني نفس ظروف زهرة لم يجد للتعبير عن هذه المأساة إلا هذا المثل الريفي المتداول: »أبوجير يترو أربي يتكمارس «.

 * الغازات السامة والسرطان في الريف: أية علاقة؟ 

يتفق أكاديميون وحقوقيون مغاربة، تبنوا ملف الغازات السامة، مع الباحث بنشريف، إذ ترتفع نسبة الإصابات بالسرطان وسط سكان الريف بالمملكة، مقارنة مع معدل الإصابة في مناطق أخرى، لوجود علاقة مضطردة بين تلك الغازات والداء الخبيث.

ويؤكد الباحث، ميمون شرقي، في كتابه “أسلحة كيماوية للدمار الشامل على الريف”، أن سبب الإصابات بالسرطان بين أهل الريف، يرجع إلى إلقاء العشرات من القنابل الكيماوية من طرف ضباط إسبان على حدود منطقة “أربعاء تاوريرت”، مبرزاً أنه بعد كل العقود التي مرت مازالت مخلفات تلك الغازات تتسبب في السرطان بالمنطقة.

فيما أكد بهذه العلاقة الباحث الانجليزي “سبستيان بلفور” بأن كل الدلائل العلمية التي توصل إليها طوال اربع سنوات من الأبحاث المتواصلة في الأرشيفات التاريخية والعسكرية بإسبانيا وفرنسا وألمانيا تؤكد أن إستعمال السلاح الكيماوي لإخماد الثورة الريفية كان لها نتائج لا تزال آثارها مستمرة لحد الساعة ولا يستبعد أن تكون تلك الآثار قد توارثتها الأجيال المختلفة عبر الجينات.

إذن السبب الرئيسي لانتشار السرطان في الريف هي الغازات السامة التي أمطرها المحتل، فهذا العدوان الكيمياوي قد انعكس سلبا على الحياة العامة في المنطقة، وأثر على الإنسان والبيئة بشكل عام، لكون الأضرار لم تكن ظرفية بل اتخذت طابعا مستمرا بسبب انتشار الأمراض الخبيثة،  الباحث “امحمد أمزيان” أنجز بحثا  حول الحرب الكماوية في الريف يصرح : “سبب تفشي الأمراض السرطانية والتي تنتقل وراثيا وجينيا عبر تواتر الأجيال، وتنتقل أيضا من البيئة إلى الإنسان بشكل لافت ومخيف، سببها استعمال إسبانيا وفرنسا للغازات السامة ومختلف أنواع الأسلحة الفتاكة”.

فيما يشكك الطرف الإسباني في تلك العلاقة السببية، الربط بين الحرب الإسبانية ضد المقاومة الريفية الشرسة، والتي كان من أبطالها ورموزها الزعيم الراحل، محمد عبدالكريم الخطابي، تفنده الباحثة الإسبانية “ماريا روزا دو مادارياغا” التي قالت في تصريح لها لإحدى المواقع إنها تستغرب الجزم بمعطى العلاقة بين تفشي السرطان في الريف وبين تداعيات ما سمي بالغازات السامة الملقاة من الجو من لدن الطائرات الإسبانية.

وأكدت مؤلفة كتاب “إسبانيا والريف..أحداث تاريخ شبه منسي”، أنه من السهل عاطفياً على المغاربة اتهام الجيش الإسباني في تلك الحقبة الزمنية بأنه ألقى غازات كيماوية سامة لتجريبها عسكرياً، وإصابة السكان والمواليد والأجيال المقبلة بأمراض السرطان، لكنه من الناحية العلمية لا يمكن إثبات ذلك أبداً وفق تعبيرها.

وهناك آفة أخرى منتشرة في الريف تساهم بشكل كبير حسب الخبراء والمختصين الصحيين وحسب تجارب المستهلك في تفشي هذا المرض، وهي المواد الغذائية المسرطنة، التي تدخل إلى المنطقة عن طريق التهريب، فالجارة الإيبيرية كما يبدو أبت أن تتركنا في حال سبيلنا فبعدما أغرقت المنطقة بسموم  الأسلحة الكيماوية الآن تغرقها بسموم المواد المعيشية.

وتباع هذه المواد الغذائية بشكل علني في جميع المحلات التجارية بالمنطقة، وتكون بارزة للعيان، وهناك محلات مخصصة لبيع تلك المواد الغذائية القادمة من الجارة الإسبانية دون غيرها، ودون وجود فارق عن ثمنها بالمدينة السليبة.

يقول المهتمون بأن تلك المواد الغذائية المتنوعة تنقل في ظروف غير صحية، ولا تخضع لأدنى مراقبة طبية، بالإضافة أن تواريخ الصلاحية المثبتة عليها تخضع للتزوير، وسبق للسلطات الأمنية الإسبانية أن ضبطت شبكات متخصصة، تقوم بوضع تواريخ جديدة على مواد قربت مدة صلاحيتها على الانتهاء، وذلك لتسويقها للمغاربة.

فأغلب من استقينا آراءهم من المواطنين، اعتبروا أن الدولة بمؤسساتها مجبرة على مراقبة تلك السلع التي تدخل للمغرب مادام أنها موافقة على رواجها، مبرزين أن ثمنها الرخيص يدفعهم لاقتنائها، مقرين بمعرفتهم أن التزوير يطال التواريخ، وأن جودتها قليلة.

تاجر ومهرب معيشي رفض أن يصرح باسمه، يشرح عن مخاطر هذه المواد الغذائية المهربة: “صراحة انعدام الشغل في المنطقة هو ما جعلنا نلتجئ إلى مثل هذه المهنة المهينة لكرامتنا، بالإضافة أن المواد المعيشية التي نهربها غالبا ما تضر بصحة الساكنة، فقد رصدت مرارا تجار التهريب المحترفين يغيرون من صلاحية التاريخ، بالإضافة الى أن هناك بعض المواد الغذائية تكون أكثر عرضة للفساد مثل الحليب واليوغورت والبيض، لانها تتحول من ثلاجة لأخرى وتعرضها للشمس بالإضافة أنها تحمل في وسائل نقل غير ملائمة   وتعرضها للاهتزاز والحرارة في الطريق، وأضف أن هذه السلع جودتها غير مضمونة”.  ويتساءل “لما يمنع تداول أغلبها بمليلية، وقد رأيت مرارا  أغلب قاطنيها يتوجهون صوب المراكز التجارية المعروفة لتبضع ما يحتاجونه”.

“أحمد” مواطن ريفي يقيم في إسبانيا نبهنا لأمر بشأن هذه المواد المهربة قائلا : “أنا ولدت في إسبانيا وعشت هناك ولكن لم أرى قط هذه العصائر والمعلبات الغذائية الإسبانية التي تروج هنا ولم افهم ابدا لماذا تباع هنا بشكل مكثف، ولا تباع في اسبانيا بتاتا مع أنها من صنعها”.

* جبر الضرر والمطالبة بإطلاق مشاريع تنموية 

أثبت خبراء و باحثين من عدة دول و منظمة الصحة العالمية  الصلة بين الغازات السامة التي ألقتها طائرات الاحتلال، على منطقة الريف في عشرينيات القرن الماضي، والتي تصنف هذه الغازات وفق المواثيق والمعاهدات الدولية، كأسلحة دمار شامل محظورة دوليا، وفقا لاتفاقية لاهاي 1899، 1907 و1954، اتفاقية جنيف 1864، بروتوكول جنيف 1925 و1926، اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية 1972، اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية 1973، وما سببه من انتشار مرض السرطان في مناطق الريف (شمال المغرب)، حيث تفشت في المنطقة تحديدا أمراض السرطان المختلفة بنسبة كبيرة وبشكل مخيف.

لذلك بادرت العديد من الفعاليات من أجل التعريف بقضية الغازات السامة في إطار العمل الدبلوماسية المدنية، وتم عقد مجموعة من الندوات الدولية والوطنية، وإصدار مجموعة من الكتب والمؤلفات والمقالات الصحفية التي لها علاقة بالموضوع، وتم أيضا توثيق شهادات من الذين عايشوا حرب الريف، حيث ربط هذه المبادرات بتأسيس مجموعة من الجمعيات أهمها:

-مركز “النكور من أجل الثقافة والحرية والديمقراطية”: وسبق للمركز أن طالب الحكومة المغربية الحالية بضرورة فتح تحقيق في موضوع الغازات السامة التي قصفت بها إسبانيا منطقة الريف في عشرينيات القرن الماضي، من خلال الاستئناس بالأبحاث الصادرة عن تلك الحرب في إسبانيا وألمانيا وبريطانيا والمغرب.

-جمعية الدفاع عن ضحايا حرب الغازات السامة: وتحاول الضغط على الحكومة المغربية لدفع صنوتها الإسبانية إلى الاعتراف بجرائمها في حق سكان الريف، وتعويض ضحايا الغازات السامة، لكنه تعويض يقول عنه إلياس العماري رئيس الجمعية، إنه “يجب أن يكون جماعياً، وليس فردياً ومالياً، من خلال اعتذار إسبانيا، وإطلاق مشاريع تنموية تنتشل الريف من هشاشته الاقتصادية والاجتماعية”..

– جمعية ذاكرة الريف: التي من بين أهدافها كشف وإثارة كل الجرائم المرتكبة في المنطقة، حيث جاء في مداخلة لرئيس الجمعية “عمر لمعلم”، في ندوة تطوان تحت عنوان: الحرب الكيماوية ضد الريف، 29 أبريل 2010، “تجدر الإشارة أن الدولة المغربية لم تحرك ساكنا إلى حد اليوم ولم تهتم جرائم الإسبان في الريف ولا انعكاسات المواد الكيماوية على مستقبل المنطقة والمغرب بشكل عام، ولاسيما أن السلطات منعت أكثر من مرة تنظيم ندوات حول الموضوع، ولحد اليوم لم تتم إدانة استعمال المواد الكيماوية بشكل رسمي”.

– مركز الذاكرة المشتركة للديمقراطية والسلم: وقد صرح  رئيسها السيد “عبد السلام بوطيب” قائلا: “قد سبق لنا أن طرحنا مقترح منهجي يهدف إلى الإجابة على سؤال ما إن كانت آليات العدالة الانتقالية، قادرة على المساهمة في معالجة الإشكاليات الحقوقية والسياسية العالقة بين المغرب واسبانيا، وعلي رأسها قصف الريف بالغازات السامة و ما تسببه اليوم من مآسي صحية، وبعد نقاش طويل ومستفيض بين خبراء كثيرون من مختلف بقاع العالم، و على مدى ما يقرب العشر سنوات، اتضح لنا أنه بالإمكان تطويع أو تكييف آليات العدالة الانتقالية لمعالجة جريمة قصف الريف بالغازات السامة من طرف الجارة الاسبانية غداة محاولة هذه الأخيرة إثبات أقدامها في المنتصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، أولى خطوات هذا الطرح المنهجي هي البحث عن الحقيقة، باعتبار البحث عن الحقيقة هي جوهر العدالة الانتقالية، لكن البحث عن الحقيقة، وفي كل المباحث، أمر معقّد، فالحقوقيون الذين يشتغلون بمناهج العدالة الانتقالية يعرفون جيدا أنهم يساهمون في حل مشاكل ناجمة عن تجاوزات سياسية أو جرائم سياسية .لذا فالحقيقة هنا لا تتعدي الإجابة على ثلاثة أسئلة ، وهي : من أمر بتنفيذ الجريمة ؟ من نفدها ؟ ومن استفاد منها ؟ . الإجابة علي هده الأسئلة هي التي تؤدي بنا إلى معرفة حقيقة الجريمة السياسية التي نشتغل عليها.. لان معرفة الحقيقة من خلال الإجابة على الأسئلة الثلاث هي بوابة حل المشكل، وإيقاف تداعياته”.

ويتابع: “من هنا ضرورة تحديد المسؤوليات في ما حدث من إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية إبان حرب الريف، ذلك أن جميع الحقوقيين المهتمين بهذه القضية و ما نتج عنها من تداعيات صحية و اجتماعية و اقتصادية يريدون تحديد المسؤوليات بدقة مما سيتيح لنا المطالبة بجبر الضرر بخلفية حقوقية صرفة، لان الامر هنا لا يمكن أن يتعلق بالتعويض المادي المباشر، بل بجبر الضرر، لكون جبر الضرر مقصد أوسع، ويلامس كل ما هو سياسي وحقوقي واجتماعي ونفسي في مثل هذه القضية.. و خاصة ما هو صحي بالنظر إلى استفحال ظاهرة الأمراض السرطانية بالمنطقة”.

ويضيف: ” في المنتهى الجرائم ضد الإنسانية لا يمكن أن تُعالج ماديا، بل يمكن أن تعالج ضمن مفهوم أوسع لمفهوم جبر الضرر الفردي و الجماعي، لذلك ندعو عبر هذا المركز كافة التنظيمات السياسية والهيئات الحقوقية المغربية إلى فتح نقاش عمومي موسع حول خلفيات وتداعيات ملف الغازات السامة وتبنى مقاربتنا التي تتوخى رد الاعتبار للمناطق التي سحقت ولساكنتها الذين تضرروا، كما نطالب الحكومة الاسبانية بالتجاوب مع مطالب المركز”.

– منتدى حقوق الإنسان لشمال المغرب  والذي وضع من ضمن أهدافه ملف جرائم الإسبان في محاولة للضغط على الحكومة المغربية لإرغام إسبانيا على الاعتذار”، أو جبر ضرر الضحايا جماعياً، من خلال تنمية المنطقة المهمشة أن حيث  صرح  عضو من أعضاء هذا المتدى قائلا “أبناء منطقة الريف قاسوا مآسيَ كثيرة جداً، عبر عشرة أجيال تقريباً، وكان الأجدر أن تبادر الدولة المغربية، بتنسيق مع مراكز بحث وخبراء في القانون والسياسة وتاريخ الحرب الإسبانية على المغرب، من أجل التوثيق للمرحلة، وضبط طبيعة وحجم الجرائم التي ارتكبت إبان تلك الحقبة”.

وبذلك يتفق جميع  حقوقيو المغاربة حول هذا الأمر، ويبدون تمسكاً بملف الغازات السامة من خلال إثارة انتباه المسؤولين لاستصدار اعتذار رسمي من الجارة الإيبيرية، خصوصاً أن حجم تخريب الأرض في الريف كان مهولاً، مطالباً الحكومة بإجراء دراسة وتحقيق عميقين في موضوع الغازات الكيماوية السامة، التي ألقت بها طائرات الجيش الإسباني على تجمعات أبناء منطقة الريف، مقاومين ومواطنين عزل.

أما باحثي القانون فيؤكدون أن الدولةَ المغربية هي من تحمل على عاتقها أن تضطلع بالمهمة مؤسساتياً وسياسياً، عبر الجهات الرسمية خصوصاً أن الاتفاقيات الدولية، المتعلقة بالإبادة الجماعية وغيرها، ذات الصلة بالجرائم الدولية، لا تعالج مثل هكذا قضايا مع أشخاص ذاتيين، بل بين الدول، ولذلك وجب على الدولة المغربية إشعار الدولة الإسبانية بمسؤوليتها السياسية والأخلاقية والتاريخية إزاء ما حدث، على الرغم من محاولات التستر التي حصلت منذ الحادثة.

وذلك عبر جبر الضرر الجماعي والفردي لساكنة المنطقة من خلال بلورة مشاريع تنموية للمناطق التي تضررت بفعل الغازات السامة إستنادا على مبادئ القانون الدولي وكذا مراعاة قواعد المسؤولية الجنائية والدولية والمدنية مع الأخذ بالوسائل الممكنة سواء الدبلوماسية منها أو القضائية.

* الساكنة: أفضل جبر للضرر، هو “إنشاء مستشفى جامعي”

الساكنة تعطي الأولوية لإنشاء مستشفى انكولوجي قبل جبر أي ضرر آخر، لأن المرض لا ينتظر، وتطالب الدولة المغربية من أجل إرغام إسبانيا على الاعتذار الرسمي، و جبر ضرر الضحايا جماعيا، من خلال إنشاء مستشفى لعلاج السرطان وتجهيزه بالوسائل الحديثة، خصوصا أن حجم التخريب في الريف كان مهولا.

وقد ترجمت السكانة مطلبها هذا على مواقع التواصل الاجتماعي حيث  جاء في إحدى التدوينات “ومع تزايد وفيات مرضى السرطان بالريف في السنوات الأخيرة، و أمام تحاشي الدولة الاسبانية تقديم الاعتذار والاعتراف بممارستها لهذه الجريمة النكراء، و صمت الدولة المغربية في هذا الشأن، نطالب كل القوى الحية مؤازرتنا لتحقيق هذا المطلب، خصوصا  أنه سبق و تقدم حزب اليسار الجمهوري الكطلاني سنة 2007 و حزب اليسار الأخضر الاسباني، بمشروع قانون في البرلمان الاسباني حول الذاكرة التاريخية و مطالبته إسبانيا بالاعتذار، مما يعني اعترافا صريحا لهذه الأحزاب السياسية الاسبانية باقتراف الاحتلال الاسباني للجريمة النكراء”.

وأيضا أطلق العديد من نشطاء وحقوقيي المنطقة عريضة إلكترونية على موقع «أفاز» يطالبون فيها الأمم المتحدة – الدولة الاسبانية – الدولة الفرنسية – الدولة المغربية: إنشاء مستشفى لعلاج مرضى السرطان بالريف ( شمال المغرب).

يقول محمد أمزيان ألّف بحثا في هذا المجال “إن أول وأهم جبر ضرر هو إنشاء مركز صحي وإيكولوجي لعلاج الامراض السرطانية في المنطقة”

وفي هذا الشأن أيضا صرح  السيد عبد الكريم الخطابي، حفيد مولاي موحند الذي يقيم في القاهرة، عن فكرته بإنشاء مستشفى لعلاج مرض السرطان بالمنطقة قائلا: “الموضوع بكل بساطة حدث بمناسبة دعوتي لاحياء الذكرى الخمسين لوفاة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي و التي احيتها جمعية ذاكرة الريف، و كانت هذه الدعوة بمناسبة تعارف بيني و بين الريف، و علمت من خلال زيارتي هذه ان مرض السرطان اللعين منتشر في الريف و ذلك بسبب ما تعرض له من ويلات و اسلحة دمار شامل ابان محاولة احتلاله، و بما اني كنت قادم من مصر و هي بدورها دولة تعاني من انتشار هذا المرض اللعين و لديها من التجارب و الحلول في هذا الشأن، وقد انشأوا لهذا مستشفى عالمي لعلاج المرض بالمجان تم عبر التمويل الشعبي المباشر ( fund raising association)  ففكرت في نقل هذه التجربة عندنا و قمت بالاتصال بالطبيب المصري صاحب المشروع، فرحب بالفكرة، و دعاني للاطلاع على المشروع وقدم لي كل ما احتاجه من معلومات بل الأكثر من ذلك أهداني النظام الاساسي لتلك المؤسسة”.

وبشأن إن كانت هذه الفكرة قد تبلورت واقعيا أم مازالت مجرد حلم، يتابع “لقد طرحت الفكرة على الاسرة الخطابية، فوافقوا و رحبوا بها  واقترحوا ان أن تساهم بالتبرع بقطعة أرضية لهذا المشروع، و استقر القرار على بقعة أرضية في مقر القيادة، لما يحمله هذا المكان من رمزية للمنطقة، بالتنسيق مع مؤسسات الدولة المعنية لنرى إن كان بناء المشروع مناسبا مع التنظيم الاعماري، و بمجرد الانتهاء من اجراءات التحفيظ سنشرع في تقديم المشروع بالشكل المناسب و للجهات المناسبة و نبدأ في انشاء المؤسسة الخيرية التي ستتكفل بعلاج مريض السرطان الذي لا يملك مصاريف العلاج”.

ويبقى إنشاء مستشفى انكولوجي من أهم المطالب التي ركز عليها نشطاء الاحتجاجات الأخيرة التي انطلقت شرارتها عند مقتل “محسن فكري” والتي مازلت  مستمرة لحد الساعة، ويؤكدون أن هذا المطلب سبق أن رفع منذ سنوات، غير أن الدولة لم تستجب له، على الرغم من أن وجود مستشفى للعلاج من السرطان في المنطقة أضحى ضرورة ملحة، بعد تزايد حالات الإصابة “بالمرض الخبيث”.

* إلى أن يستيقظ المسؤولون .. “التضامن هو الحل” 

لقد وجد الإنسان الريفي على وجه هذه الأرض وهو يحمل في نفسه بذور التضامن وعوامل الحياة الاجتماعية، فخصال التضامن متأصلة ومتجذرة فيه وهو ما يسمى بلغتنا المحلية ب”تويزا”، وما تحمله هذه العادة في طياتها من قيم إنسانية سامية، وبذلك ننمي الحاجة للشعور بالانتماء إلى الجماعة التي تحتوينا وإلى الأرض التي ننتمي إليها.

أما بالمفهوم النفسي فيسمى بالسند أو الدعم الاجتماعي الذي يتلقاه الفرد من الذين لهم أهمية في حياته مثل الأسرة والأصدقاء والزملاء والأقارب والجيران وغيرهم من أعضاء المجتمع، وإذا كان هذا شعور الاسوياء، فإن هذا الاحتياج يكون في أوجّه عند الشعور بالألم والتعرض للمرض أو سوء الأحوال الصحية، ويأتي هذا التضامن إما معنويا أو ماديا.

والسند الاجتماعي يعتبر تعبيرا حقيقيا لتلك الروابط والاتصالات والدعم التي يتلقاها الفرد من المحيطين به، وقد كان موضوع اهتمام علماء النفس الاجتماعي وبعدها المختصين في ميدان الصحة وبالأخص في ميدان علم النفس الصحي، حيث أظهروا الأهمية الكبرى للسند بالنسبة للفرد والتي تظهر إما في تحسين وترقية صحته النفسية والجسدية، وإما حمايته من الآثار الناجمة عن تعرضه للضغوط والتخفيف من سلبياتها، فهو يلعب دورا وقائيا ضد الاضطرابات النفسية والانفعالية قبل حدوثها وعلاجيا عند حدوثها.

وقد تبين أن مشكلات عدم الاستجابة للعلاج تكون بأقصى درجاتها عند الأشخاص الذين تعرضوا لضغوط حياتية أو الذين لم يكونوا يتمتعون بالمساندة الاجتماعية  ففي دراسة حديثة حول أهمية السند لمرضى السرطان وجدت ان المرضى  المحاطون بعائلة متفهمة وتساندهم تمكنوا من البقاء أكثر من المرضى المتخلى عنهم وأن المرضى المتزوجين تمكنوا من البقاء بدرجة تفوق المرضى غير المتزوجين أو المنفصلين عن شركائهم أو المطلقين أو الأرامل.

كما أكد المختص النفسي “جيمس دريفر” أن المساندة النفسية والاجتماعية للمريض تعتبر ضرورة علاجية لانها تنظر إلى المريض على أنه كيان إنساني يعاني من حالة مرضية، وأنه من حقه أن يعيش في حالة من التوافق النفسي، وأن مساندته نفسيا واجتماعيا تؤدي إلى تقبل مرضه والرضا عن ذاته وتدعيم امله في الحياة، كما كشفت دراسات بركمان وسميس أن شبكة العلاقات الاجتماعية التي يمكن ان تدعم المريض تساهم بقدر كافي في علاجه وتعزز مراحل شفائه من مرضه.

“حياة” من أحد نماذج المرضى الذين تلقو دعما من عائلاتهم فكانت نتيجة العلاج  إيجابية، تحكي لنا “حياة” كيف أثر هذا السند العائلي على ارتفاع معنوياتها وتجاوب جسدها مع العلاج تقول: “فمن منا لا يحتاج للآخرين الذين نتلقى منهم مشاعر الدفء والود والمحبة ويساعدوننا على التغلب على أزمات الحياة وشدائدها ومصائبها، وخصوصا عند الإصابة بمثل هذا المرض الذي كنت قد ابتليت به منذ ثمان سنوات، فكانت عائلتي خير سند لي، فزوجي لم يعيرني بمرضي قط، ويذكرني بميعاد الدواء ويرافقني لجلسات العلاج…ولم أحس به أبدا أنه ضجر من مرضي أو جرح مشاعري مرة، وأبنائي الاربعة ووالداي وإخوتي كلهم سندوني ودعموني كذلك”.

وتضيف “عندما رآني الطبيب المعالج بهذه المعنويات العالية وهذا التفاؤل، تفاءل بدوره  وأكد لي  أن العلاج سيكون ذو نتيجة إيجابية بإذن الله،  فأخبرني بأن المرض الخبيث يتقلص بالتفاؤل وينتصر بالتشاؤم، وهذا ماحصل بالفعل فقد انتصرت معنوياتي العالية وتعافيت تماما”.

لذلك اعتبرت المساندة الاجتماعية من أهم العوامل النفسية والجسدية، وقد حضيت باهتمام الباحثين خاصة في ميدان علم النفس الصحي، اعتمادا على مسلمة مفادها أن المساندة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد من الذين لهم أهمية سواء من خلال عائلتهم القريبة، او من خلال الجماعات التي ينتمي إليها، يعني المساندة والتضامن لا تقتصر على العائلة فقط  بل على المجتمع ككل.

فنتساءل عن عدد الحملات والندوات التي نظمتها جمعيات المنطقة لصالح تحسيس الساكنة عن الخبيث للوقاية منه أو مؤازرة المرضى المصابين؟ سيكون الجواب في أغلب الظن لا شيء، رغم أن المنطقة مليئة بالجمعيات، فتقريبا توجد جمعية لكل مواطن، مع أن الساكنة بحاجة قصوى إلى مثل هذه الحملات التحسيسية والتضامن الاجتماعي.

لذلك على المجتمع المدني ككل وخصوصا الجمعيات التي لها أهداف إنسانية، بالقيام بحملات تحسيسية في هذا الشأن، فمثل هذه الحملات ستلعب دورا وقائيا وتحسيسيا للمجتمع ككل ولن يقتصر على المصابيين فقط، وذلك إما بتقديم النصائح والتوجيهات للأشخاص الغير مصابين أو كسند للأشخاص المصابين:

حملات تحسيسية وقائية وتوجيهية: وذلك من خلال التعريف بمخاطره  الجسيمة وكيفية الوقاية منه عبر مجموعة من التوجيهات لتحسيس الساكنة، وإعطائهم نصائح وتوجيهات لكيفية الوقاية منه وكيفية تشخيصه في مراحله الأولى قبل بلوغ مرحلة الخطر، إلى جانب إعطاء العديد من المعلومات على الوصول إلى جسم مثالي وصحي بعيدا عن الأمراض، وإعطائهم معلومات علمية لتجنب مرض السرطان كإعطاء الجسم توازن صحي وغذائي سليم، كالابتعاد عن الأغذية التي تحوم حولها الشكوك أنها مسرطنة وخصوصا المعلبة منها أو المهربة، والتحفيز على الرياضة، والتحسيس بمخاطر بعض المسببات كالسجائر والمخدرات والخمر الذين يعتبرون كمسببين رئيسيين للمرض الخبيث، كعرض لمكوناتهم والأمراض التي يسببونها إلى جانب العمل على تجنبهم أو التوقف عن استهلاكهم، ولا ننسى إعطاء توجيهات للفحص الذاتي وخصوصا سرطان الثدي بالنسبة للنساء حيث يعتبر هذا النوع من أكبر انواع المرض انتشارًا في العالم عموما وفي المنطقة خصوصا.

حملات لدعم المصابين : تعمل على ضمان السند المعنوي كلقاء بين المرضى والأشخاص الراغبين على تقديم العون والمؤازرة لهم أو دعمهم نفسيا، أو التخفيف من  الاضطرابات النفسية والانفعالية للمرضى وإما حمايته من الآثار الناجمة عن تعرضه للضغوط والتخفيف من سلبيات العلاج، وخصوصا أن العديد من العلاجات تسبب تغيرات جسدية دائمة أو مؤقتة تقود إلى تغير وتبدل في صور الجسم كفقدان عضو او حدوث ندبات نتيجة الجراحة أو فقدان الشعر نتيجة العلاج الكميائي، فقد وجد ان الانخراط في الحوارات مع المريض حول السرطان وإيجاد الطرق البناءة لحل المشكلات كانت مفيدة للغاية، بينما اتضح ان انزواء المريض وابتعاده عن الآخرين بل وإخفائه عن المجتمع كلها امور تزيد من درجة قلقه وتأزم نفسيته.

ما ذكرناه هي مايسمى التضامن أو الدعم المعنوي، ولا ننسى أهمية المساندة المادية، فكما نعلم أن نسبة الفقراء في الريف نسبة كبيرة وخصوصا في المناطق النائية،  فدعم المصابين ماليا وماديا ضروري لإنقاذ هذه الحالات أو التخفيف من معاناتهم وآلامهم، مثلا كتدشين حملات تضامنية، ولما لا تقوم الساكنة مثلا بمبادرة إنشاء صندوق دعم خاص لمرضى السرطان في الريف، فيتطوع كل شخص بالتبرع فيه حسب استطاعته، فقد رأينا سابقا الكثير من الحالات التي اجتهد فيها المحسنون من المنطقة وخصوصا من الجالية الريفية لمساعدة إخوانهم المرضى، وتوفير لهم المبالغ المطلوبة.

و حالة “سوليا” من الحالات التي أنقذت مساعدة المحسنين ابنها من الخبيث, فعند زيارتنا لها لم يكن أمامها أي خيار آخر لكتم شعورها، وكبح فرحتها، وتقليل معدل سعادتها التي تظهر سريعًا على ملامح وجهها، وهي تتأمل ابنها ذو السبع سنوات وهو بصحة جيدة ويلعب مع أقرانه من الأطفال، بعدما كانت قد فقدت الأمل في عيشه بعد عام كامل من المعاناة مع الخبيث.

فتجمل معانتها قبل أن يتدخل أحد المحسنين ليغير حياتها “لم أكن أتوقع أن أرى إبني بهذا الحيوية وبهذه الحالة بعدما كنت قد يأست من حياته لولا ملاكا في صورة إنسان تطوع وأنقذه من براثين الموت”.

وتتابع “فأنا أم لطفلين صغيرين أكبرهما لا يتجاوز التاسعة من عمره تخلى عني زوجي، فأربي بعض الماشية لأعيلهما، ولكني تفاجأت بإصابة إبني الصغير بسرطان الدم، فبعت كل ما أملك من ماشية لمعالجته، ولكنها لم تكفي ولو لعلاج واحد، فوصل خبر مرض إبني لأحد المحسنين فتكفل بكل تكاليف علاجه، بل مازال يقدم لنا مساعداته لحد الساعة”.

ثم فاجأتني بسؤال لم أستطع الإجابة عنه، قالت بالنص بعد أن تغيرت نبرة صوتها: “ولكن  أغلب معارفه يروجون أن ماله حرام  وأنه يتاجر بالمخدرات وأن صدقته غير مقبولة، فما رأيك يا أستاذة؟ فهل من يحمل في جوانحه كل هذه الإنسانية وينقذ إنسانا على وشك الموت ويخلصه من الآلام ألن يقبل الله منه هذا؟”…والتزمت الصمت.

ختاما: كغيرها من الأحلام أصبح العلاج من مرض السرطان في المنطقة حلما بعيد المنال، وفي الريف أحلام أبنائه ليست من تلك التي تكتمل وتتحقق فيعيشونها في الواقع ويسعدون بها ولا التي تموت نهائيا وتندثر فييأسون منها، وإنما على الراجح أنها مما تبقى معلقة على أمل أن يكون لها بقية لكن في زمن ومكان آخر غير هذا الوطن.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق