بمناسبة السنة الامازيغية الجديدة ذ محمد المهدي علوش يكتب: حتى لا ينقرض الأمازيغ

12 يناير 2020آخر تحديث :
بمناسبة السنة الامازيغية الجديدة ذ محمد المهدي علوش يكتب: حتى لا ينقرض الأمازيغ

مر على المقال التالي ما يقارب السنة، وقد ترددت كثيرا في نشره مخافة أن أزعج بعض الأوساط التي اعتادت التكرم علي بأكاليل من السباب والشتائم كما حصل عند نشري كتاب إسلام الامازيغ. لكن استمرار التحامل على الهوية الامازيغية، وانتشار بعض الأفكار الرجعية التي تطعن في شرعية المطالب الهوياتية الأمازيغية، والنكوص الملحوظ لدى الجهات الرسمية في تفعيل رسمية اللغة الأمازيغية تطبيقا لدستور المملكة، كل هذا دفعني إلى دق ناقوس الخطر الذي يهدد هويتنا الأمازيغية في صميم وجودها وذلك بنشر هذا المقال بمناسبة السنة الأمازيغية التي أتمنى حلولها خيراً وسعادة على كل المغاربة وعلى جميع الأمازيغ في كل مكان.

بوسطن، فبراير 2019  ذ محمد المهدي علوش

ينشر باتفاق خاص بين اريفينو و الكاتب

حتى لا ينقرض الأمازيغ

ما أكثر ما قيل وكُتب وتردد حول تعريب الأمازيغ. وقليل من هذه الأقوال والكتابات يلتزم جانب الموضوعية بما يقتضيه من نزاهة فكرية وتجرد علمي، لأنها تنسب إلى أشخاص وجِهات لها مواقف مبدئية من الحركة الأمازيغية: إما لأنها متعصبة لجنسها ويكون دافعها بالتالي هو الانتقاد والتجريح واتهام الطرف العربي بأفعال وتصرفات لا يقوم أي دليل تاريخي ولا حتى منطقي على حصولها؛ وإما لأنها متحمسة للعروبة فتعمد إلى تبخيس اللغة الأمازيغية، وتحيط اللغة العربية بهالة من التمجيد والتلميع أقرب ما تكون إلى التضليل منها إلى التجميل؛ الأمازيغيون المتعصبون يتهمون جهات غير محددة (المخزن، العروبيون، الوطنيون المستعربون…) بطمس الهوية الأمازيغية عن طريق التعريب الممنهج الشامل للبشر والتراب، وهي متسترة وراء تحرير البلاد من هيمنة اللغة الفرنسية، ففشلت في انتشال المغرب من مخالب اللوبيات المفرنسة، بينما نجحت في تعريب الجنس الأمازيغي في أبعادة العرقية والهوياتية والإنسية. العروبيون المستلبون يجدون في العروبة البوتقة التي انصهر في قالبها الأمازيغ منذ الفتح الإسلامي، ويرون في اللغة العربية الأداة التواصلية المناسبة للمغاربة المنتمين إلى أمة محمد لا غنى لهم عن عمقهم التاريخي العربي ولا عن دينهم الإسلامي الذي لا يستقيم بغير لغة العرب. وكلا الطرفين في نظري يغالي في مواقفه بسبب تضخم الأنا والإفراط في الاعتزاز بالذات عند هؤلاء، وإصدار الاتهامات المتشنجة والأحكام المتسرعة بالخروج عن الملة وخدمة الأهداف المعادية للإسلام من قِبَل أولائك.

والحقيقة بالذات هي ما أسعى إلى ملامسته من خلال هذا المقال الذي يمثل في الواقع أحد الفصول المستخرجة من كتابي المقبل حول تعريب البلاد الأمازيغية. ليس في التاريخ ما يثبت سعي العرب إلى تعريب الأمازيغ عن طريق القضاء على مقومات الهوية الأمازيغية، والدليل على ذلك أن الهوية الأمازيغية لا زالت قائمة صامدة رغم تبني الأمازيغ لعدة لغات أجنبية ظلت لقرون أداة التواصل بين نخبهم وتلقين المعارف وتدوين الوقائع والتأليف في شتى المجالات الأدبية والدينية. لقد تبنوا اللغة البونيقية لقرون أيام حكم قرطاجة، وتعاملوا باللغة اللاتينية لعدة قرون أيضا أيام حكم الرومان والوندال والبيزنطيين. خلال كل هذه القرون التي قضاها الأمازيغ تحت السيطرة السياسية والعسكرية القرطاجية والرومانية، وفي ظل نظام اجتماعي وبيئة ثقافية وحضارية بونيقية لاتينية، أقول خلال كل هذه القرون لم تختف الهوية الأمازيغية من الوجود، والعلامة المميزة والبارزة لهذه الهوية هي اللغة الأمازيغية بطبيعة الحال.

كثير من الأمازيغ تهودوا قرونا قبل الإسلام ولازال بعض المغاربة على ديانتهم اليهودية إلى الآن. كثير من الأمازيغ تنصروا قرونا قبل الإسلام لكن دين عيسي لم يصمد أمام دين محمد كما فعل دين موسى. وعندما جاء الإسلام اعتنقه الأمازيغ بشكل جماعي تقريبا لأسباب عالجتها بتفصيل في كتابي حول إسلام الأمازيغ. ورغم تعدد الديانات واختلاف اللغات التي تناوبت على بلاد الأمازيغ فإن هؤلاء لازالوا في كثير من مناطق شمال أفريقيا من مصر إلى المغرب متمسكين بهويتهم التي تجسدها لغتهم الأمازيغية الصامدة. من المؤكد أن الحضارات والثقافات والأجناس والمعتقدات التي توافدت على بلاد الأمازيغ خلفت آثاراها المتجلية إلى اليوم في كثير من المظاهر المادية وعبر العديد من الأشكال الثقافية اللامادية، بدءا بالمعالم الأثرية العمرانية وانتهاء بالمفردات اللغوية مرورا ببعض المعتقدات والطقوس والأساطير. ومع ذلك تبقى هذه التأثيرات هامشية إلى جانب النواة الصلبة للهوية الأمازيغية المعتزة بخصوصيتها والمتميزة بطول تاريخها الحافل بأعمال المقاومة والصمود والاعتداد بالذات.

كثير من الفرنسيين ظنوا عند احتلالهم الجزائر سنة 1830 أنهم دخلوا أرضا عربية، ليس بسبب الخلط الذي كان حاصلا بين العروبة والإسلام فحسب ولكنبسبب سواد اللغة والثقافة العربيتن بين القبائل الأمازيغية خاصة في المدن والمناطق الساحلية والسهول بشكل عام. لكنهم سيكتشفون بعد ذلك عند اقتحامهم للمرتفعات أن الأمر ليس كذلك. هكذا كشف أوغستين برنار الباحث والجغرافي الفرنسي عن حقيقة التركيبة الديمغرافية للبلاد الجزائرية حين قال سنة 1929: ” ليس هناك عرب في شمال أفريقيا؛ ليس هناك إلا بربر على درجات متفاوتة من الاستعراب…لقد دفعت هيمنة الدين الإسلامي وقاطرته، اللغة العربية، الأوروبيين، خاصة إبان غزو الجزائر، إلى الاعتقاد أن أفريقيا الشمالية لا يقطنها غير العرب؛ لكن فحصا ولو سطحيا يكفي للاقتناع بكون عدد كبير من السكان الأهالي لا يتحدثون العربية ويكادون لا يفهمونها… وقد تم الاعتراف في النهاية بأن شمال أفريقيا بلاد بربرية حيث تسند طبقةً عربيةً رقيقيةً قاعدةٌ بربرية كثيفة لم تكد تتغير.” (1)

كان هذا واقع الحال في الجزائر قبل قرنين تقريبا، وأصبح اليوم واقعا في المغرب بشكل لا غبار عليه. التعريب يتقدم باستمرار في بلادنا ليس على مستوى اللغة الفصحى فحسب، لكن أيضا على مستوى اللغة الدارجة التي عمت جميع المدن والمراكز الحضرية والقرى المغربية بما فيها المأهولة حصريا بالساكنة الأمازيغية منذ آلاف السنين. هذه حقيقة لا يمكن التغافل عنها أو تجاهلها. “كيف أصبحت، في بضعة قرون، أفريقيا الشمالية المأهولة بأمازيغ مترومين جزئيا ومتنصرين جزئيا تشكل مجموعة من البلدان المسلمة عن آخرها والمعربة في معظمها إلى حد أن ساكنتها تقول عن نفسها وتعتقد أنها من أصل عربي؟ ” هذا السؤال طرحه المؤرخ والأنتروبولوجي الفرنسي كابرييل كامبس في أكثر من مناسبة، وهو يتحدث عن سرعة انتشار الإسلام بين الأمازيغ وإقبال الكثير منهم بحماس وبدون تردد على تقمص الهوية العربية بكل ما تحمله من لغة وتراث وأدب وذاكرة جماعية.

سؤال قد يبدو غريبا نوعا ما في نظر المغاربيين الذين لا يكلفون أنفسهم عناء طرحه، وكأن انتماءهم إلى الجنس العربي أمر بديهي لا يحتاج إلى سؤال. هكذا تحولت بلاد الأمازيغ في ظاهرها وباطنها، بالرغم من كل ما يقال، إلى بلاد عربية اللسان والهوية والانتماء والذاكرة، وما نعرفه عن استمرار مناطق أمازيغية بجبال الأطلس والريف ولقبايل وغيرها، بقايا تمثل فعلا تامزغا في عمقها التاريخي واللغوي والهوياتي، لكنها تبقى هامشية وبدون أي تأثير على سير الأوضاع في الأقطاب الحضرية والمرافق الإدارية والمجالات الاقتصادية والفكرية. لقد ظلت تاموزغا Amazighitéفي أبعادها اللغوية والسوسيولوجية والثقافية على حالها منذ دخل العرب، بل وحتى قبلهم، في قواعدها المحدودة ومجالاتها الضيقة، وظلت اللغة الأمازيغية محدودة في آفاقها وأغراضها ومجالاتها لا تعبر إلا عن بسيط الأشياء، ولم ترق في يوم من الأيام إلى لغة الفكر والإدارة والاقتصاد. هذا ما دفع كامبس إلى القول: “في الواقع لا توجد اليوم لغة بربرية بالمعنى الذي يجعل من هذه الأخيرة انعكاسا لجماعة واعية بوحدتها، ولا يوجد شعب بربري ولا جنس بربري حتى. كل المختصين متفقون حول هذه الجوانب السلبية…ومع ذلك فإن البربر موجودون”.(غابرييل كامبس، أصول البربر).

أمر مُحيّر فعلا أن تتخلى شعوب بكاملها عاشت عدة قرون في ظل حضارات راقية (2(عن هويتها الأمازيغية بما تحمله من تراث وتقاليد ومعتقدات لتتبنى لغة العرب وتتبع تقاليدهم وعاداتهم وتمجد أسلافهم وتنصهر في كيانهم وكأنها جزء منهم. فأصبحت بذلك منطقة شمال أفريقيا كلها محسوبة على العالم العربي ليس في نظر القوميين العرب والمستعربين الأمازيغ والأنظمة السياسية القائمة فحسب، ولكن حتى في المصطلحات الجيوسياسية والجغرافية والعلمية السائدة في العالم أيضا. فأصبحنا نقرأ يوميا في جميع اللغات عن العالم العربي الذي يشمل بالطبع كافة بلدان شمال أفريقيا باعتبارها أعضاء في جامعة الدول العربية. والأدهى من هذا أن كثيرا من المغاربة لا زالوا يسمون هذه المنطقة بالمغرب العربي متجاهلين تراجع الدستور المغربي عن هذه التسمية المستفزة لمشاعر الأمازيغ منذ سنة 2011. ويكيبيديا تضع بطبيعة الحال دول الشمال الأفريقي ضمن “العالم العربي”. كذلك فعل المعجم الوسيط الذي عرف العرب كما يلي: “أُمَّةُ الْعَرَبِ : أُمَّةٌ السَّامِيِّينَ ، مَنْشَؤُهُمْ بِشِبْهِ الْجَزِيرَةِ ، وَانْتَشَرُوا مِنَ الْخَلِيجِ إِلَى الْمُحِيطِ بَعْدَ الْفُتُوحَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ “.

وعملية التعريب زاحفة تطوي المراحل كل يوم وساعة ودقيقة، فلو توجهت بسؤال إلى أحد أمازيغ جبال الأطلس القاصية أو جبال الريف النائية حول معرفته للعربية لأجابك ببضع كلمات لم يكن يعرفها ولا يتصورها أحد من جيل الستينات أو السبعينات من القرن الماضي حين كانت العربية العامية مجهولة تماما بمناطق الريف والأطلس كما يشهد بذلك أبناء ذلك الجيل وأنا منهم. من المؤكد أن تعميم التعليم والكهرباء ساهم إلى حد كبير في تعريب الأمازيغ بواسطة المدارس والتقاط البرامج الإذاعية والتلفزية التي تقدم أهم برامجها باللغة العربية، ناهيك عن توسيع الشبكة الطرقية التي مكنت أمازيغ المناطق النائية من التنقل والاتصال بالمغاربة الناطقين بالعربية في الأسواق والمواسم وغيرها.

ليس قصدي بهذا الكلام معاكسة دينامية الاستعراب أو الحد من مداها لأن معرفة اللغات خير من جهلها، ولغة العرب أولى بالمعرفة بالنسبة للمغاربة كمسلمين لأنها لغة القرآن والسنة والمذاهب الفقهية. والاطلاع على مضامين الشريعة ومؤلفات الفقهاء والعلماء المسلمين بلغتها العربية الأصلية خير من قراءتها مترجمة. فقد فهم الأمازيغ قديما واقتنعوا بعد عقود من التردد ومقاومة الغزو العربي أن الإسلام يستوجب التعرب، وأن العروبة والإسلام شيء واحد. وفي هذا قال المؤرخ المصري حسين مؤنس:” أن تكون مسلما في ذلك الوقت هو أن تكون عربيا وأن تكون عربيا يعني أنك مسلم”. كان هذا الكلام صحيحا حين كانت هوية الناس تختزل في الانتماء إلى ملة واحدة: المسلم أخ المسلم والمسيحي أخ المسيحي. أما اليوم وقد أصبح الدين أمرا شخصيا لم تعد تقام من أجله الحروب ولا تسترقّ بسببه الشعوب، وفازت الأمم بحقوقها في الإعلان عن ذاتها وإشهار ثقافتها والتعبير بلسانها، فإن كل لحظة تقاعس عن ممارسة هذه الحقوق يمثل خطوة نحو الانقراض والذوبان في الثقافة المهيمنة.

المشكلة عندي إذن لا تكمن في تعلم لغة العرب وإتقانها والتعامل بها، وإلا لما كتبت بها وأنا قادر عن التعبير بغيرها، إنما المشكلة في اتخاذها كعنصر وحيد في الهوية المغربية بصورة مطلقة وحصرية دون اللغة الأمازيغية وما يرتبط بها من تراث وتاريخ وخصوصية يتميز بها الأمازيغ عن الشعوب العربية. المشكلة في اعتبار كثير من المغاربة وخاصة المستعربين منهم أنهم عربا والحال أنهم ليسوا كذلك، بل جلهم أمازيغ تعربوا باختلاطهم بالعناصر المعربة وبتأثرهم بالبيئة المستعربة التي نشأوا وترعرعوا فيها. وفي هذا إنكار للهوية المغربية المتميزة، وإجحاف في حق الشهامة الأمازيغية التي استقبلت وتقبلت العروبة وتبنت العربية باعتبارهما من مقومات الإسلام ومستلزماته منذ العصور الوسطى.

ليس في نيتي التحامل على اللغة العربية أو القدح في من سعى وراء زرعها وترسيخها في البلاد الأمازيغية، فقد أصبحت تشكل أداة التواصل الفعلية المعممة بين المغاربة جميعهم سواء في صورتها الفصحى أو في صيغتها العامية الدارجة. وانتشارها بين الأمازيغ لا يعد في حد ذاته ذنبا أو أمر مشينا. إنما القصد أن لا يكون ذلك على حساب اللغة والهوية الأمازيغيتين. ولا يمكن الوقوف في وجه التيار الجارف للمد العروبي ومقاومة الدينامية المتسارعة لعملية التعريب إلا بدينامية أخرى معاكسة تبدأ بتوعية الأمازيغ أنفسهم بهويتهم ولغتهم وحثهم على التمسك والاعتداد بهما. ذلك أن سبب تراجع الأمازيغية أمام العربية ليس بسبب مخطط عروبي مدبر ولكن بسبب تقاعس الأمازيغ وتفريطهم وعدم تشبثهم بلغتهم كما تفعل الشعوب الحية الصانعة لمصيرها. من الأكيد أن المهمة صعبة ومعقدة أمام تأثيرات الدين والإدارة والتعليم والإعلام المتضافرة كلها ضد الأمازيغية، لكن هذه القطاعات يسيرها مغاربة يفترض فيهم أن يعملوا من أجل مصلحة البلاد. ومصلحة البلاد في تماسك المجتمع المغربي وتناغمه في ظل نظام تعددي الأفكار والمذاهب والهويات. مصلحة البلاد تتجلى في تفعيل الدستور وترسيم الأمازيغية التي ناضلت من أجله أجيال بكاملها حتى يتصالح المغاربة مع ماضيهم وتتحقق وحدتهم في إطار تعددية ثقافية واعية بحدودها وآفاقها. ولا بد من أجل ذلك من تفنيد بعض الادعاءات الشائعة والأحكام المتسرعة وما تحمله من مغالطات وتروج له من معلومات غير صحيحة كاتهام جهات غير محددة بتعريب البلاد المغربية في أبعادها البشرية والجغرافية، والعمل على طمس الهوية الأمازيغية عن سبق إصرار وترصد وغير ذلك من الكلام الذي لا تدعمه أية حجة ولا يستند على أية حقائق موضوعية.

الحقيقة التي أعرفها والتي لا وجود لغيرها في مختلف المصادر العربية والغربية أن التعريب لم يبدأ مع استقلال المغرب ولا حتى مع الحركة الوطنية التي كانت أولى إرهاصاتها مع صدور الظهير الذي دعي “بالبربري” سنة 1930. مسلسل التعريب بدأ مع أول غزوة استهدفت المنطقة من أجل نشر الإسلام، دين العرب الذي لا تصح فرائضه بغير لغة العرب. تعريب تامزغا انطلق منذ شرع ولاة بني أمية في إقامة النواة الأولى لحكم البلاد الأمازيغية وإدارتها باللغة التي يعرفونها والتي هي لغة العرب عوضا عن لغة الحكام البيزنطيين السابقين التي هي اللغة اللاتينية. فاللغة الأمازيغية في الأصل لم تتعرض لأي تهجم ولا تهميش من طرف الحكم العربي الإسلامي الذي لم يجد لها أثرا في مؤسسات البلاد ولا في إدارتها. كانت الأمازيغية لغة الشعب وظلت كذلك إلى اليوم. والعربية دخلت فعلا إلى البلاد لكن لتطرد اللاتينية التي كانت متداولة في الدواوين البيزنطية. والتعريب الذي أقصده هنا يهم الجهاز الحكومي والإدارة والشأن الديني. أما ما عدا ذلك فقد ظل الأمر على حاله، ولم يُكره الأمازيغ على تعلم لغة العرب إلا من رغب في ذلك طمعا في نيل حظوة عند الحكام أو تفقه في الإسلام.

ومهما قلنا عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى هذا الوضع الذي قل نظيره في العالم، فإني لا أنفي استغرابي لمواقف الشعوب الأمازيغية وتصرفاتها الملتبسة والمتناقضة مع الأجانب. فتراهم يقاومون ويثورون ويرفضون الوجود الأجنبي ويحاربونه بكل الوسائل إلى حد الهلاك(3)، وتراهم يتحالفون مع الأجانب ويتعاملون معهم إلى حد الدخول تحت وصايتهم والائتمار بأوامرهم(4). وإذا أمكن تبرير هذه المواقف بضعف الكيانات الأمازيغية وطبيعتها الانقسامية قبل الإسلام، فإن تصرف الأمازيغ مع العروبة اتخذ شكلا آخر لا يمكن تفسيره إلا بصدق إسلامهم ووعيهم بما أحدثه من تغييرات جذرية في نمط حياتهم وطبيعة علاقاتهم ببعضهم. فبالإسلام توحدوا وبه غزوا أمما وفتحوا بلدانا. وبسببه نسوا أصولهم وتخلوا عن لغتهم وثقافتهم ليتبنوا هوية ولغة العرب. هذا ما حصل بعد طرد الحكام الأمويين واستقلال الأمازيغ بإماراتهم وتأسيسهم لدول كبرى كالمرابطين والموحدين والمرينيين.

لكن الأشياء تتغير والأفكار تتطور، والإنسان بطبيعته يرنو إلى تحقيق ذاته وإثباتها والاعتزاز بها. نسي الأمازيغ في الماضي ذاتهم بعد إذابتها في أمة الإسلام التي ظنوها عربية بالضرورة. واليوم، وقد صحوا من غفلتهم وتبينوا المصير المظلم الذي يهدد كيانهم بالانقراض، أصبح من الواجب عليهم الانتفاض من أجل إحياء ذاتهم بواسطة الأداة الوحيدة التي لا زالت تجسد ثقافتهم وهويتهم وبالتالي خصوصيتهم وهي لغتهم الأمازيغية الصامدة. إن تغيير واقع اللغة الأمازيغية يحتاج إلى مقاربة جادة وصادقة من الجهات المسؤولة، ويتوقف على حلول حقيقية تنسجم مع المكاسب التي تحققت إلى الآن على أكثر من صعيد من أجل انتشال اللغة الأمازيغية من غياهب التهميش وافتكاكها من مخالب الإهمال. ولن يتحقق هذا إلا بحصول الوعي الحقيقي بالهوية الأمازيغية لدى الأمازيغيين أنفسهم أولا، ثم العمل من أجل رد الاعتبار إلى اللغة الأمازيغية بتفعيل المقتضيات الدستورية التي تنص على ترسيمها حتى يتسنى للأمازيغ استعمالها وتداولها في الإدارات العمومية والمرافق الحكومية والمؤسسات القضائية مثل اللغة العربية.

(1) Les Berbères entre l’Islam et l’Occident, André Berthier, Revue Population, Année 1947 N 1-2, pp. 117-128

2) تأسيس قرطاجة سنة 814 ق.م، و تأسيس أفريكا الرومانية على أنقاضها كان سنة 146ٌق.م ، وبداية الغزو العربي كان سنة 647م، أي ما يقرب من 15 قرنا من الوجود الحضاري الأجنبي بين القرطاجيين والرومان والبيزنطيين.

(3) مثال: يوجرتن وتاكفارن وفيرموس وجيلدون ويبداس وغرمول وأكسيل والديهية وغيرهم كثيرون.

(4) مثال: يوبا الثاني وأنطالاس وكوتسيناس وموسى بن أبي العافية المكناسي وزيري بن عطية المغراوي وغيرهم أيضا كثيرون.

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق