زيارة: من يكون هذا “الحاج الطيب” الذي يسافر له الناظوريون الى عمق جبال “إيمينواداي”

26 أبريل 2015آخر تحديث :
زيارة: من يكون هذا “الحاج الطيب” الذي يسافر له الناظوريون الى عمق جبال “إيمينواداي”

2642015-e8b18

موسى الراضي

في مكان معزول تماما، تتربع واحدة من أكثر الأماكن شهرة بين صفوف الباحثين
عن طرق أخرى «للشفاء» و بينهم عشرات الناظوريين الذين يحجون لهذا المكان.

يتحدث الكثيرون هنا، عن بركات الحاج الطيب، بكثير من
الحماسة، وقدرته على تغيير حياة «القادمين إليه من جميع المدن المغربية».
هناك حديث آخر عن كون المنطقة قبلة لصيادي الكنوز، والباحثين في الكتب
والمخطوطات القديمة، ذات حروب دارت رحاها بالمكان.
المثير في قصة هذا الرجل، الحاج الطيب، أن مدرسته تبقى مثيرة للجدل، كونها
مؤسسة غاية في التنظيم، تقوم في منطقة نائية، لم تعرف إليها الحضارة طريقا
بعد، ورغم ذلك فإن شهرتها تسبقها. تحيط بالمكان تضاريس صعبة، وكثير من
الغموض، خصوصا وأن القادمين إلى الفقيه، بحسب تصريحات الذين يعملون على
راحته وتسيير جلسات استقباله للضيوف، يشرف على توزيع الرقية الشرعية عليهم
ويعالجهم من الأمراض التي لم يفلح الطب الحديث في كشفها.
في هذا الملف، بحث في شخصية هذا الرجل «الحاج الطيب»، وجولة مثيرة في مدرسة
يكتنفها الكثير من الغموض.
الطريق إلى إيمينواداي
وأنت تودع الطريق السيار متوجها إلى المخرج الذي يقود إلى مدينة أكادير، لا
تزال أمامك طريق طويلة للوصول إلى تارودانت. عندها يجب أن تستدير يمينا عند
أول منعطف خارج المدينة. الطريق المؤدية إلى ورزازات، ومراكش، تبقى ممتدة
إلى الأمام، فيما الطريق إلى إغرم تأتي على يمين الطريق. هنا، تبدأ رحلة
أخرى، أكثر تكلفة، في الوقت والجهد.. ساعات متواصلة من اللف بين جبال
شاهقة، إلى أن تصل إلى مدينة «إغرم». وبعد تجاوز إغرم، تنتهي الأدلة التي
ترشدك إلى الطريق.
قد يظن الكثيرون أن مدرسة «إيمينواداي»، توجد على مشارف قرية ما، والحقيقة
أنها تستقل بنفسها، تماما مثل مدارس «الكونغفو» التي تنبت بين جبال الصين
الوعرة. وحدهم أطفال المدارس الذين يقفون في جنبات الطريق على مشارف إغرم،
يدلون الناس على مكان مدرسة الحاج الطيب.
بدا واضحا أن الناس ألفوا مرور السيارات في اتجاه «المجهول»، و(ينعتون)
ببراعة، بلغة تخلو من الكلمات، كون أغلب الناس هنا لا يتحدثون اللغة
العربية إلا قليلا، حتى لو كانوا تلاميذ في المدارس العمومية، يعوضونها
بإشارات اليد، لتلتف يمينا أو يسارا إلى أن تصل إلى الوجهة المطلوبة.
تلميذ بالكاد يبلغ عمره 14 ربيعا، يتصبب عرقا قرب صخرة في منعرج خطير مفض
إلى منحدر ينتهي أسفل الجبل، يؤشر بيده إلى السيارات القليلة التي تعبر
المكان. عندما توقفت السيارة، طلب منا بإشارة من يده أن نقله معنا ما دمنا
نمضي إلى الأمام. سألناه عن مدرسة «إيمينواداي» أفجاب بإيماءة من رأسه أنه
سيوصلنا إلى المكان. مرت دقائق متلاحقة لم ينبس خلالها الشاب بكلمة، يتأمل
الطريق من زجاج السيارة، رغم أن المشهد كله يمر أمام عينه كل يوم. بعد أزيد
من 17 كيلومترا، قال الطفل إنه يقطع أكثر من هذه المسافة كل صباح سيرا على
الأقدام، والتعب وحده يمنعه من قطع المسافة مرة أخرى بنفس الطريقة عند
العودة. كلمات قليلة وكثير من الإشارات، بالكاد يتواصل هذا التلميذ الذي
يسكن في قرية، تعد الأقرب إلى مدرسة إيمينواداي، وتفصل بينهما مسافة طويلة
بين التضاريس الوعرة. بلمسة كتف خجولة يشير الطفل إلى السيارة.. توقفنا،
وفتح الباب بغير عناء، ونزل ليغلق الباب، ويتمشى ببطء، ليحوم بالسيارة من
الاتجاه الآخر، كي يسبقنا إلى مفترق الطرق، ويشير بيده إلى الأمام حتى
نواصل السير إلى أن نصل المدرسة، فيما اتخذ هو منعرجا صخريا، وسط الخلاء،
ليصل إلى القرية، رغم أن المكان الذي نزل فيه لا تبدو قربه أية معالم للحياة.
طال الطريق، وبدأت الشكوك تحوم حول النعت الذي قدمه لنا الطفل الصغير، وقبل
أن يتبدد آخر خيط للأمل، في سيارة متعبة من المسير لساعات طويلة دون
انقطاع، بدت معالم منعرج ترابي إلى جانب الطريق المعبد، وأمامه لوحة كبيرة
على شكل سهل تدل على اتجاه المدرسة التي لم يبق للوصول إليها إلا مئات
الأمتار. سيارات متوقفة قرب منحدر، تبدو منه مدرسة إيمينواداي، واقفة في
منخفض، تحيط به الجبال من كل جانب.
عالَم منفي عن العالم
سيارات كثيرة ترابط بالمكان، بعيدا عن أشعة شمس حارقة حتى في المساء. أصوات
تلاوة القرآن تصل إلى خارج المدرسة، فيما السيارات تحمل لوحات ترقيم من
مختلف الأماكن.
لوحة كبيرة تحمل اسم المدرسة وصاحبها، ومدخل صغير يفضي إلى عالم آخر. منطقة
ظليلة بين باب المدرسة والعالم الخارجي، تفضي إلى ساحة صغيرة، إلى يمينها
صف من الغرف بأبواب خشبية مغلقة، تحمل أرقاما ترتيبية. الساحة لم تكن خالية
من المارة الذين ألفوا المكان وألفهم أيضا. فيما بعض طلبة العلم، كما يبدو
ذلك من هيئتهم ولباسهم، يجتمعون في مجموعات صغيرة يسترقون لحظات غفلة من
المشرفين على النظام، ليتأملوا الضيوف.
يستقبلك رجل بملامح من عين المكان، يتحدث بطلاقة كبيرة مرحبا بكل زائر،
ويدعو الداخلين إلى العودة معه إلى الباب الرئيسي ليسجلهم في دفتر الزوار.
بدا الأمر غاية في التنظيم، وأكد لنا المشرف أن اليوم الذي جئنا فيه، وكان
يوم ثلاثاء، يعد واحدا من الأيام التي لا يكون فيها تهافت على رؤية الفقيه.
دخلنا غرفة، أراد لها البناؤون أن تكون معزولة تماما عن المدرسة، وأن يكون
بابها خارج الباب الرئيسي. اخرج السجل، وبلمحة بسيطة، تبدو أسماء المدن
التي يأتي منها الزوار عادة، وكان الأمر مثيرا حقا، لأن صفحة واحدة من
السجل، تضم مدنا كثيرة ومختلفة، من شمال المغرب وجنوبه من أقصاه إلى أقصاه.
«الناس يأتون إليكم من جميع المدن..» كانت مقدمة كافية ليشرع الرجل في
الحديث، بكثير من الفخر عن المدرسة، ليقول إن: «الناس يأتون إلينا من خارج
المغرب أيضا. خصوصا في فترة الصيف التي يغتنمها أفراد الجالية لرؤية الفقيه
وأخذ بعض البركة، والتبرع لطلبة العلم هنا ببعض المال. المهاجرون الذين
يأتون إلينا، يطلبون بركة الفقيه لتلاوة القرآن الكريم على المرضى الذين لم
ينفع في علاجهم أطباء أوروبا وأمريكا، ويأتون إلى الفقيه بعد أن يسمعوا عن
بركاته الكثيرة..».
«من أين جئتم؟». الجملة وحدها قطعت خيطا طويلا من التأمل في الكلام الذي
تفوه به الرجل للتو، وسجل في السجل الدار البيضاء، مرددا عبارات الترحاب،
التي بدا أنه يكررها أمام جميع الزوار. رجل كان معنا، يحمل حقيبة صغيرة من
النايلون، عليها شعار ماركة معروفة لصناعة الحواسيب عبر العالم. بدا متلهفا
للقاء الفقيه، وبعد جلسة قصيرة، قال الشاب إنه طالب بالدراسات الإسلامية في
جامعة أكادير، وجاء إلى الفقيه ليسأله عن بعض المخطوطات النادرة، مغتنما
زيارة عائلية إلى مدينة إغرم، قرر بعدها أن يتوجه إلى هذا المكان «العجيب»
على حد قوله، عله يجد ضالته عند الفقيه، إعداد لبحث التخرج الذي سيناقشه في
العام المقبل.

على طريقة العيادات الخاصة
عندما يسجل اسم الزائر في السجل، والغرض من الزيارة أيضا، والتي يعنونها جل
القادمين بالرغبة في الجلوس مع الفقيه، دون الإفصاح عن الرغبة الحقيقية
التي جاؤوا من أجلها. بهذا الخصوص يعلق الرجل المكلف بالاستقبال: «بعض
الناس يرغبون في لقاء الفقيه من باب التبرك به فقط. وآخرون يأتون إلى هنا
قادمين من أماكن بعيدة جدا، وينتظرون دورهم للدخول عند الحاج الطيب أياما
قد تصل إلى أسبوع كامل.. فقط لرؤيته لعشر دقائق وربما أكثر بقليل. وعندما
يجلسون معه، يشتكون له من مشاكل الحياة ويطلبون منه الدعاء، أو رأيه في
مسألة ما، وينصرفون بعد ذلك».
حسب المتحدث دائما، فإن الذين يأتون إلى المدرسة لا يقطعون صلتهم بها،
خصوصا إذا توجت زيارتهم لها بالنجاح، وأحسوا أن مشاكلهم التي جاؤوا من
أجلها قد انتهت وولت إلى غير رجعة، ويرسلون إلى المدرسة مساعدات بين الفينة
والأخرى.
عندما ينتهي الرجل من تسجيل الوافدين الجدد والأماكن التي قدموا منها، يمنح
كل واحد، أو كل مجموعة تريد رؤية الفقيه، ورقة كارتونية صغيرة، عليها اسم
اليوم الذي جاء فيها حاملها، والرقم الترتيبي له. على شاكلة العيادات
الطبية، اعتمد المكلف بالاستقبال هذه الطريقة لتنظيم الوافدين على الفقيه،
لأن بعض الضيوف، حسبه دائما، يأتون من أماكن بعيدة جدا، مثل وجدة والناظور،
ويطلبون منا أن ندخلهم عند الحاج الطيب، على وجه السرعة، بذريعة أنهم
قادمون من أماكن بعيدة جدا.
في ذلك المكان النائي، تنتصب آلات شمسية لتسخين المياه، كتلك التي تبدو من
أسطح الفيلات في أكثر الأحياء رقيا بالعاصمة، وهذه المظاهر، وأخرى غيرها،
تحققت للمدرسة بفضل مساهمات «محبي» الفقيه الحاج الطيب، والذين لا يتورعون
في مده بالمساعدات، لتسيير مدرسة قرآنية يتجاوز عدد الطلبة بها المئتي
طالب، أغلبهم لا تتجاوز أعمارهم الـ15 سنة، ويقيمون بالمدرسة طوال السنة
بعيدا عن أسرهم.
فندق غير مصنف وسط الجبال
على بساطتها، ورغم توفرها على الكثير من الأماكن التي تشبه تلك الفنادق
التي تنتشر على جنبات مداخل المدن الصغيرة، تبدو مدرسة إيمينواداي من
الداخل، وكأنها عيادة نفسية كبيرة. بغض النظر عن المئات الذين يسكنونها
بالليل والنهار، والذين يملؤون جنباتها، تارة ضجيجا وصراخا، وتارة أخرى
ينخرطون في تلاوة جماعية للقرآن الكريم وسط تلك الجبال المقفرة.
حتى والمكان يعج بعشرات الردهات والدهاليز الضيقة، فإن هناك مكلفين برعاية
الضيوف داخل المدرسة، وإرشادهم. مكانان لا بد لكل من دخل المدرسة أن يمر
بهما: مسجد المدرسة ومكان الانتظار، الذي يتحول إلى مطعم كبير بعشرات
الموائد في أوقات الأكل، التي لا توقيت محدد لها. قد يتناولون هنا طعام
الغذاء عصرا أو ظهرا، وكلما وضعت مائدة، وجدت عشرات الضيوف، مشكلين أفواجا
تنتظر دور الدخول إلى غرفة الحاج الطيب، والتي مروا قربها جميعا أثناء
دخولهم، ولم ينتبه لوجودها أحد.
ورقة معلقة في مدخل مكان الجلوس، مكتوب عليها «ممنوع الوقوف في هذا
المكان»، وتحمل توقيع الحاج الطيب. لماذا يمنع الوقوف في هذا المكان
بالذات؟ يجيب أحد الذين يشرفون على الخدمة، بعد أن يلتفت ذات اليمين وذات
الشمال: «بعض الناس يقفون للاختباء وراء الجدار الصغير، في انتظار صعود
الحاج الطيب إلى غرفته التي يستقبل فيها ضيوف المدرسة، ويقفون في طريقه،
لإبلاغه بحاجتهم أو الغرض الذي من أجله جائوا إلى المكان.. خصوصا إن طالت
ساعات انتظارهم للقائه».
من سطح ساحة الانتظار، يبدو منظر من الجبال البعيدة، وخلاء واسع لا أثر فيه
للحياة، ويطرح سؤال ملح بشدة، عن الذي فكر أول مرة برمي هذه المدرسة في هذا
المكان بالضبط، بعيدا عن كل شيء. هذا السؤال يجيب عنه أحد العارفين بخبايا
المكان، وواحد من ضيوفه الدائمين، طلبا للراحة والتأمل: «الغاية من وضع
المدرسة في هذا المكان هو ضمان تفرغ طلبة العلم لدراسة القرآن الكريم وحده
وأصول الفقه والابتعاد عن ملذات الحياة». ملذات الحياة وصلت إلى هذا
المكان، عندما تلمح كيف أن بعض طلبة العلم الصغار يتحلقون حول زميل لهم،
متصارعين برؤوس حليقة يرتطم بعضها ببعض، للتمكن من رؤية شاشة هاتف صغير
بحوزة واحد منهم، لمشاهدة شريط فيديو، عليه تعليق صوتي لمعلق رياضي معروف،
معجب بهدف «ميسي». سألنا واحدا من أولئك التلاميذ عن علاقته بكرة القدم،
فقال إنه يشاهد مباراة «ميسي» ضد ريال مدريد، كلما تمكن من مغادرة المدرسة
لرؤية عائلته الصغيرة في نواحي مدينة ورزازات، والتي تبعد عن هذا المكان
أزيد من 200 كيلومتر وسط الجبال. أحيانا يرى عائلته مرتين في السنة، بعد
رمضان وفي عيد الأضحى، وهناك طلبة لم يروا عائلاتهم لأكثر من سنة لم
يغادروا خلالها باب المدرسة.
تأدب.. فأنت في حضرة الفقيه «الطيب»
لا أحد في الحقيقة يطلب منك أن تتأدب في حضرة الفقيه. لكن الجو العام
للمكان، يجعل الجميع يدخلون في طقس من التقديس، المبالغ فيه ربما، لكنه
يجعل الجالسين ينعمون بجو من السكينة وسط هذا المكان البعيد عن كل شيء.
فجأة صعد الفقيه من درج على يمين القاعة الكائنة في الطابق الأول، وبدت
عمامته، لبعض الجالسين، فيما آخرون لم يتحمسوا لأي شيء، وانهمكوا في أحاديث
جانبية وكأنهم لا ينتمون إلى هذا العالم الغريب. خلع الفقيه بلغته،
فالتقطها أحد خدامه الأوفياء ووضعها بعناية إلى جانب الباب الذي يفتح ويغلق
بواسطة سكة صغيرة على أرضية الباب. جلس الفقيه في غرفته التي لا يبدو لأحد
ما بداخلها، جاؤوه بالغذاء، وكان الوقت حينها قد تجاوز «صلاة العصر»، وما
هي إلا دقائق، حتى جاء شاب، بلباس مهلهل، وقف بثقة، أبدى كثيرا من المبالغة
في إبدائها، ونطق الرقم 10 و11، وتجول بنظره بين الجالسين بحثا عن أصحاب
الرقم، لكنه لم يجد المعنيين بالرقم، قبل أن يصيح فيه زميل له، أن يمر إلى
الرقم الموالي لينهض رجل شيخ، بالكاد يستطيع الوقوف معتدلا، ومعه شاب يتكئ
عليه، ملتمسا طريقه إلى حيث باب «الفقيه».
مرت الدقائق على الآخرين طويلة، قبل أن يسألنا أحدهم عن حاجتنا، ليعلم أننا
لا نلوي على شيء، وأن لقاء الفقيه لن يكون إلا للتعارف فقط. نهض على الفور
وهمس في أذن أحد الواقفين قرب الباب، ليعود إلينا. لا سبيل للقاء الفقيه
اليوم لأنه مشغول باستقبال آخرين. «أنت تحمل الرقم 31» وقد تنتظر ليومين أو
ثلاثة أيام لتتمكن من رؤية الحاج الطيب. لكن بما أنك لا تريد رؤيته من أجل
غرض شخصي، فإنه يمكننا أن نبلغه رسالتك بكل فرح».
يفضل البعض قضاء الليل هنا، ما دام الفراش متوفرا للمبيت، لكن آخرين يفضلون
العودة من حيث أتوا، لمعانقة الحياة والتفكير في العودة مجددا إلى مكان، لا
يدري الداخل إليه أهو في زاوية شيخ طريقة من الطرق، أم في مدرسة تخضع لنظام
دراسة صارم، تمزج بين حفظ القرآن، واستقبال ضيوف الفقيه الطالبين للرقية،
وأمور أخرى نفى المحيطون به أن تكون في هذا المكان.
لماذا هذا الإقبال على المدرسة؟
يكذّب المحيطون بالحاج الطيب، والذي بدا الوصول إليه صعبا، كل ما يقال عن
كون بعض القادمين إلى هذا المكان يأتون طلبا لخدمات «غير مشروعة» ويردون
عليها بأن للفقيه علاقات وطيدة مع «الناس المحترمين» والنافذين، ولا يمكن
أن يربط علاقات بهم، إذا كانت المدرسة تعرف سلوكات أخرى غير تلك التي تبدو
على الأرض.
يأتي البعض إلى الفقيه، لإبطال السحر وإبعاد العين وطلب البركة، لكن الذين
يأتون لأغراض أخرى يتم رفضهم. ويزيد المتحدث أن «الفقيه يطرد برفق أولئك
الذين يأتون إليه بحثا عن الكنوز، وطلبا لخدمات غير مشروعة، وينصحهم
بالعدول عن الأمر لما فيه من تحريم، كأن يطلبوا أمورا تتعلق بالسحر وإفساد
التجارة والعلاقات بين الناس. لقد جاؤوا إلى المكان الخطأ.. يقول المتحدث،
لكن شيوخا هنا، ومرضى، ينتظرون بركة فقيه في مكان معزول، لا حظ له من
«بركة» الدولة ولا مخططات التنمية!

*من يكون الحاج الطيب؟*
يستحق هذا المكان أن يوصف بأغرب مكان في المغرب، لا وجود للنساء في هذه
المدرسة ولا بين الضيوف. مئات من البشر لا مكان بينهم لامرأة واحدة ولو في
صفوف المرضى والراغبين في البركة. جميعهم رجال، يفترشون أرض قاعة كبيرة
للانتظار، ويحملون بين أيديهم وريقات صغيرة من الورق المقوى، على شاكلة تلك
التي تمنحها لك ممرضة في عيادة طبيب للأسنان.
هنا، حيث لا شيء إلا الحجارة والخلاء، شيدت مدرسة معزولة تماما عن الحياة،
وأسست لنفسها حياة أخرى، تُشد لها الرحال من كل مكان في البلاد.
مرضى وباحثون عن أشياء أخرى، يسمعون عن هذا المكان، ومنهم من قطع آلاف
الكيلومترات، بحثا عن المدرسة التي تبدو من بعيد كنقطة صغيرة في أرض شاسعة
من التراب حيث المناخ الوعر والشمس التي تكسر الحجارة قبل الرؤوس.
الحاج الطيب، هو رجل المعادلة الصعبة في حكاية هذا المكان. هو زعيم
المدرسة، وكل الذين يأتون إلى إيمينواداي، مدرسته، لديهم حلم الجلوس معه.

*زعيم إيمينواداي.. وجبت طاعته وحرّمت مخالفته!*
حول الرجل، تحاك قصص كثيرة. البعض يصنفها في صنف الكرامات، وآخرون يضعونها
في سلة الدجل مباشرة.
من جهة أخرى، تروج حكايات كثيرة عن الراغبين في استخراج الكنوز، لكن الحاج
الطيب ينفي، عبر أعوانه ومساعديه في المدرسة ممن تحدثنا إليهم، أن يكون قد
يشجع على مثل تلك الأمور، وأن مدرسته مدرسة علم، يقصدها الناس لما فيها من
البركة، ولما لشيخها من الصلاح. لا مكان إذن هنا للباحثين عن الطلاسم
والسحر الأسود، وتوثيق الحجابات..
لكننا رجعنا إلى كتاب، يحمل صورة كبيرة للحاج الطيب، وعنوانه: «فوح الطيب
الطيب من حياة العلامة الطيب». هذا الكتاب، وبالضبط في الصفحة 210، يقول:
«فقد أمرنا من وجبت طاعته وحرمت مخالفته من مشايخنا، شيخنا وسيدنا ومولانا
سيدي الحاج الطيب، بتأليف كتاب في أمر الأحراز وتعليقها ومحوها بماء وسقيها
للمصاب والاغتسال بذلك الماء وما يتبع ذلك من البخور والأدهان..».
بعد هذا المقطع، وفي نفس الصفحة يعترف كاتب الكتاب، والذي يبدو أنه واحد من
مريدي الحاج الطيب وأتباعه، أنه قرر تأليف كتاب في أمر الأحراز وتعليقها
ردا على السلفيين والوهابيين.

*قصص مثيرة وسر الرسالة التي بعث بها الزعيم إلى أتباعه من الحج*
في نفس الكتاب، فوح الطيب الطيّب من حياة العلامة الطيب، يوجد مقطع مثير
يتحدث، بلسان تلميذ ومريد الحاج الطيب، عن كرامات هذا الفقيه. يقول موردا
نص رسالة كتبها الحاج إلى أتباعه عندما وصل إلى مكة لأداء فريضة الحج،
يوصيهم فيها بالمدرسة خيرا: «حضرة أبنائنا وعائلتنا الكبار منهم والصغار،
أصلحكم الله وحفظكم فإني توصلت بالأمكنة المقدسة والحمد لله صباح اليوم
الجمعة 16 رمضان وزرت والحمد لله وطفت كما أحببت وتمتعت بخير كثير في هذه
البقاع حيث يستجاب الدعاء وبقيت على ذلك إلى يوم الثلاثاء 20 رمضان، ذهبت
إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فوافيته قبل طلوع الشمس لليوم
المذكور، فختمت مع الزيارة والعبادة التي كان عليها أهل مسجد الرسول صلى
الله عليه وسلم 300 سلكة على المدرسة إحياء لها ولمن يتكلف بها ولمن يخدم
فيها ولمن يقرأ فيها، ولمن يسعى إليها بخير وختمت 200 سلكة أمام الرسول صلى
الله عليه وسلم لكل طالب منا واحدة له، وختمت واحدة على سيدي عبد الرحمن بن
عثمان وصاني عليها. وانظروا في إصلاح المدرسة حتى تروني إن شاء الله وادعوا
معنا بخير كما نحن عليه إليكم وسأرجع إن شاء الله إلى مكة يوم الجمعة 23
رمضان وسأقوم ليلة السابع والعشرين هناك، وسأرجع إلى المغرب لأسافر منه إلى
فرنسا التي أنوي البقاء فيها 15 يوما حتى تنتهي العواشر».
لم يورد الكتاب التاريخ الذي دونت فيه تلك الرسالة، لكنه يعرض وجها من
الأوجه التي تحيط بشخصية هذا الرجل، حيث يقول إنه ختم القرآن حوالي 500 مرة
منها 200 أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
في واحدة من المواقع التابعة للسلفيين، جرد أحدهم، يكني نفسه أبا فضل، ردا
عنيفا على رسالة الحاج الطيب بعد أن اطلع عليها، وكتب رسالة مطولة يشرح
فيها ما أسماه المبالغات التي يعمد إليها الحاج الطيب أو مريدوه، ممن
يريدون الترويج للـ«الكرامات» التي ينعم فيها الرجل وأتباعه، ومنها أن يقرأ
القرآن الكريم كاملا أمام قبر النبي عليه السلام 200 مرة، وقبله 300 مرة في
المسجد بالمدينة المنورة.

*هذه قصة الوصول إلى زعامة المدرسة المثيرة للجدل*
بين صفحات الكتاب، صفحة يستحيل أن يمر عليها القارئ مرور الكرام. يتعلق
الأمر بالجزء المخصص من الكتاب، للحديث عن بدايات الحاج الطيب، أيام كان
تلميذا في المنطقة، قبل أن يمنحه شيخه الجليل سر البركة ويصبح زعيم
المدرسة. يقول حيان محمد، وهو الذي ألّف الكتاب الذي يمجد الحاج الطيب: «..
ومن شجاعته كذلك أنه احتال للبق الموجود في بيته وهذه الحيلة أنه يأتي
بالتبن الموجود في أكياس سكر القالب ويجلس عليه في الليل ببيته حتى إذا
اجتمع البق داخل التبن أحرقه ثم ينام».
لكن المقطع المثير، والذي يروي فيه المؤلف قصة بداية مجد شيخه الحاج الطيب،
والتي دارت أحداثها بين الحاج الطيب وشيخه الذي سيورثه في هذه القصة أمر
الزعامة، وهو الآتي: «.. ذات يوم أكل مع الفقيه طعام الغذاء وكان الزمن زمن
الصيف والفقيه لم يقدر على الأكل فقال له الحاج الطيب لماذا يا سيدي لم
تأكل، ورد عليه الفقيه قائلا: لا أقدر على الأكل ثم أضاف: الشيء الذي اشتقت
إليه وأريد أكله لا يوجد هنا، فقال له السيد الحاج الطيب: ما هو؟ فقال له
الفقيه: إنه كبد الماعز وقلبه وبطنه فسكت الحاج الطيب ولما فرغ من الأكل
خرج متعمما حازما مسرعا يمشي على رجليه ذاهبا إلى سوق بويكرا وبين المدرسة
وبيوكرا ثلاثون كيلومترا وقد وصلت الحرارة إلى أكثر من 40 درجة، واشترى ما
اشتاق إليه الفقيه من ذلك السوق ثم رجع إلى المدرسة ولم يصلها إلا في
الساعة الثانية عشرة ليلا، وأدخل على الفقيه ذلك الشيء الذي اشتراه وأمره
الفقيه بطبخه ولما فرغ من طبخه قدمه له وأكله الفقيه: ماذا تريد أن ندعو
الله سبحانه وتعالى أن يعطيك إياه في هذه الليلة وبالضبط في هذه الساعة؟
فأجابه الحاج الطيب: أنت يا شيخي أعلم بذلك ثم قال له الفقيه هذا الدعاء:
«جعلك الله يا تلميذي الطيّب أفضل من كل من قرأ هنا من أول تأسيسها إلى
آخرها». وقد كان الأمر كذلك».
هذه إذن قصة زعامة الحاج الطيب والتفاف أتباعه حوله في مدرسة إيمينواداي.

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


التعليقات تعليقان
  • THIDHAT
    THIDHAT منذ 9 سنوات
  • أوهنو سفيان
    أوهنو سفيان منذ سنة واحدة

    بارك الله في شيخنا الفاضل
    اللهم بارك له في عمره و ارزقه الصحة و العافية
    آمين آمين

لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق