ناصر الزفزافي .. ثـائـــر أم خائــــــن؟ (بورتريه)

24 يونيو 2017آخر تحديث :
ناصر الزفزافي .. ثـائـــر أم خائــــــن؟ (بورتريه)
https://youtu.be/

اسبوعية الايام

في تاريخ المغرب المعاصر لم تكن ستة أشهر كافية ليصنع شخص من نفسه صورة زعيم ملفت للانتباه، تنقاد له الحشود ويتحكم في توجيهها بالشكل الذي يريد، من 10 دجنبر 2016 حتى اليوم نجح ناصر زفزافي في قيادة الحراك الشعبي بالحسيمة ونواحيها، عشرات الآلاف تنزل إلى الميدان في انضباط تام لتوجيهات الزعيم الميداني الذي رافق الحراك الاجتماعي بالريف بعد مقتل بائع السمك محسن فكري.. من يكون هذا الشاب الملتحي القليل الحظ من التعليم، الذي لم يسبق له الانخراط في أي حركة سياسية، وفجأة طفا اسمه إلى السطح، وخلق ظاهرة يصح أن نطلق عليها «الزفزافية».

«إن تاريخ المغرب يشبه في وجوه عديدة سلسلة متتالية من المواهب لا تكتشف إلا بعد فوات الأوان»، وناصر زفزافي هو أحد هذه المواهب الاستثنائية التي طفت فجأة على سطح الأحداث، مع أربعينية بائع السمك محسن فكري يوم 10 دجنبر 2016.. قبل هذا التاريخ لم يكن لناصر أي وجود يذكر، معطل ابن حي الميناء، موهبته الأساسية هي الفايسبوك واليوتوب وممارسة أشكال متعددة من الرياضات، ومنذ الحدث المأساوي الذي فرمت فيه جثة محسن في حاوية للأزبال، مساء يوم 28 أكتوبر الماضي، أخذ يروج الصور والفيديوهات المرتبطة بالحدث على حسابه الخاص، مصاحبا ذلك بتعليقاته الانتقادية للسلطات والنخب المحلية، وبسرعة البرق نجح ناصر زفزافي في أن يصبح القائد الأول الميداني لعمليات الحراك الشعبي التي انطلقت مع أربعينية بائع السمك..

في السياق المغربي، كانت أشياء كثيرة تتعرض للفرم في حاوية لمخلفات التاريخ، خيارات شعبية، تصويت حر نزيه لفائدة حزب سياسي يقوده عبد الإله بنكيران، وعودة قوية لما قبل 2011 بشكل كوميدي كما يعلمنا ماركس عن تكرار التاريخ لنفسه، ومشهد سياسي لم يعد يغري أحدا بتتبع تفاصيله.

لم يكن ناصر زفزافي يحلم يوما أن يصبح زعيما لأكبر حراك شعبي عرفه المغرب بعد أحداث الربيع الذي جلبته حركة 20 فبراير.. فهو ابن مولاي احمد زفزافي المناضل الاتحادي، هو رابع إخوته الذكور، ابن حي الميناء أو «البايرو أو بريرو»، وهو ذاته حي العمال بمدينة الحسيمة، يحمل في ذاته كل تناقضات المرحلة، فهو سليل أسرة لها أمجاد مع زعيم ثورة الريف المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي، وأبوه مناضل في حزب الاتحاد الاشتراكي، قبل أن يصاب بسن اليأس السياسي مع التبدلات الغرائبية الحزينة التي ضربت حزب القوات الشعبية مع نهاية القرن الماضي، وهو من مواليد جيل المسيرة الخضراء، الذي لم يتخلص من هموم الجيل السابق، جيل الاستقلال، وتبركا بالثائر القومي العروبي، جمال عبد الناصر، سمى الأمازيغي الريفي ابنه «ناصر»، الذي درس مرحلة الابتدائي في مدرسة طارق بن زياد، ولم يُتم تعليمه الثانوي في ثانوية الإمام مالك في التعليم الأصيل، حيث غادر التعليم وهو لم يحصل بعد على شهادة الباكالوريا.

على غرار ابن خالته أستاذ الرياضة ولاعب كرة السلة ومدرب لعناصرها، كان ناصر زفزافي لاعب كرة السلة في صفوف نادي الشباب الحسيمي، يعتبره الكثير من السياسيين والحقوقيين طارئا على السياسة، ولم يسبق له أن انخرط في أي «دكان» سياسي كما يحب أن ينعت الأحزاب والنقابات والجمعيات، ويؤاخذون عليه ضعف مستواه التعليمي وهزالة تكوينه السياسي، لكن ما الذي جعل منه «أيقونة للريف» وقائدا ميدانيا يتحكم في الجموع الحاشدة التي تصل إلى 20 ألف محتج.

كان يُرى دوما في مقهى «كلاكسي» أمام جهاز حاسوبه أو هاتفه الذكي يسجل الفيديوهات أو يذيعها في حسابه كبودكاست جلب الآلاف من الزوار والمعجبين بخطابه الراديكالي الذي لم يكن يتجاوز في البداية حدود المطالبة بتحقيق نزيه في مصرع السماك محسن فكري، مارس ناصر مهنا هامشية في الميناء وفي محل لبيع الهواتف المحمولة، لكنه كان يقضي معظم وقته في العطالة.

يجمع ناصر زفزافي في اسمه بين رمزية القائد القومي ناصر، وثقل امتداده الجغرافي بالريف، في قلب ناصر زفزافي وشجرة أنسابه يوجد جرح التاريخ، فعمه هو السكرتير الخاص للمجاهد محند عبد الكريم الخطابي المكلف بتحديد مواعيده بالقاهرة، لقي حتفه بالعرائش، لحظة ميلاد ناصر زفزافي (1978)، وأحد أجداده كان وزيرا للداخلية في حكومة الريف بقيادة مولاي امحند، وأبوه يتمتع بشعبية كبيرة كمناضل اتحادي سابق، لذلك نجح في أن يقدم نفسه كوريث شرعي لرموز ثورة الريف، ونشأت الأساطير وازدهر الحكي حول شخص ناصر، البعض يقول إنه يشبه المجاهد الخطابي في عينيه أو في أنفه، والبعض يرى أن جبهته قريبة من جبهة جده الذي عمل إلى جانب أسد الريف… إذ لابد للزعيم من شجرة نسب، ومن أسطورة، ولعب ناصر على هذه الواجهة بشكل ذكي، بدا كما لو أنه سليل ثوار الريف من الخطابي إلى سلام أمزيان وحدو أبرقاش، مستخدما لغة بسيطة قريبة من فهم عامة الناس، تقول همومهم وتداعب أحلامهم، حيث ساهمت طلاقة لسانه في حشد الجموع، وتكييف أهوائها ورغباتها وفق مشيئته..

قدم ناصر زفزافي نفسه في البداية في إطار هوية محلية للحراك الشعبي بالحسيمة، وهو يرفع شعار: «ذا إيمازيغن، ذا إيريفين»، «هذا الريف وحنا ناسو والمخزن يجمع راسو»، «هذا الريف أرض حرة، والمخزن يطلع برا»… غير أن مبالغته باللعب على رموز الريف: العلم الأمازيغي، أعلام عبد الكريم الخطابي، حيث لا صورة ولا رمز وطني كان يطوف في ساحة الحراك الشعبي، عزلت الحراك الشعبي عن أي امتداد خارج منطقة الحسيمة وضواحيها، وهو ما كان – بالنسبة للعديدين- يزكي هوية منغلقة متوحشة، لكن بعد بلاغ الأغلبية التي اتهمت متزعمي الحراك الشعبي بالانفصال، أخذ ناصر زفزافي يوجه كلامه إلى المغاربة ويعدل تدريجيا من الخطاب الهوياتي الذي يتحدث عن ثورة أمازيغية بالريف.

يجمع ناصر زفزافي بين لحية «تشي» وبنية أبطال أفلام الحركة بفضل قوته الجسمانية، يفتخر في كل حواراته بأنه ليس «متورطا» في أي انتماء سياسي، وأنه سليل أسرة متواضعة على المستوى الاجتماعي.. ونظرا لكونه معطلا، فإنه متواجد في كل لحظة في الميدان أو في اليوتوب وداخل مواقع التواصل الاجتماعي، خطابه لاقى قبولا كبيرا لدى الساكنة المحلية حتى أضحى ظاهرة ملفتة للانتباه… اكتسب ناصر زفزافي خبرة ميدانية في إدارة الاحتجاج وخلق صورة جديدة للزعيم السياسي الحركي بين النخب المحلية التي امتد إشعاعها خارج الحسيمة، حتى أصبحنا أمام موديل «الزفزافية» التي أضحت على كل لسان عبر امتداد التراب الوطني، قوامه شخص قوي البنية، محدود التعليم، لا يفارق هاتفه الذكي، يملك جرأة أقوى ويتميز خطابه بصدق أكبر، وإن بسذاجة سياسية بحسب العديد من السياسيين، وأكبر خطأ استراتيجي ارتكبه تمثل في اقتحامه يوم الجمعة الماضي لمسجد «ديور الملك» بالحسيمة وإيقاف الإمام وهو يخطب، وهو ما جلب عليه استنكار وغضب حتى مقربيه.

يعتمد ناصر زفزافي على صورة «الزعيم» الحديثة، هاتف ذكي في جيبه، بذلة رياضية، دقة اختيار الصورة وشكل ترويجها، وشكل اختيار كلماته بعناية فائقة، وإن بدا أنها خاضعة للارتجال، ثم هناك المظهر المسرحي الفرجوي المصاحب للزعيم، من خلال شكل مشيته أو مظهر وقوفه أمام الحشود وهو يرفع يديه أو وهو يرقص بجسده على إيقاع الكلمات الملتهبة التي تخرج من فمه، ولا عجب، فعبر الجسد تتكثف كل التغيرات الاجتماعية، لذلك خلق ناصر زفزافي لنفسه صورة الزعيم كما في أفلام «رومبو»، المظهر الجسدي القوي، شكل مشيته التي لا تنقصها سوى موسيقى المارش العسكري، وهو برفقة «البودي كارد» المصاحب له، بزي موحد، شباب أقوياء البنية يحرسون الزعيم المعرض برأي الجماعة إلى الخطر، من الآخر المخزن، البوليس، والبلطجية، إذ لابد في كل حراك من عدو غير مرئي وغير مجسد، لكنه حاضر مثل الظل في كل التفاصيل.

السرعة ذاتها التي علا بها نجم ناصر زفزافي قد تشهدها عملية أفوله، ما لم ينجح في تخليص ذاته من أسر الانبهار والإعجاب الذاتي والعناد السياسي، والوقوع رهينة لتموجات شارع تتلاعب فيه أطراف متعددة وأهواء كثيرة ومصالح متناقضة.. شارع غير منضبط.

لقد وشم ناصر زفزافي اسمه على واجهة حراك شعبي لا زالت تداعياته مستمرة، بعد أن طفا إلى الساحة بعد الحادث المأساوي لمحسن فكري، قدرته الميدانية على تنظيم هذا الطوفان البشري في الريف مع الاحتجاج المستمر لمدة ستة أشهر، وضبط غرائزه والتحدث باسم آلامه وآماله حوله إلى ظاهرة غذتها وسائل الإعلام المحلي والوطني والدولي، وهو ينتج خطاب الشهادة والاستشهاد في حراك شعبي سلمي أبدع أشكالا حضارية راقية للاحتجاج، نجح ناصر في ترك بصماته على الحراك الاجتماعي بالريف، غير أن حادث اقتحام المسجد وصدور قرار باعتقال ناصر زفزافي، حول الأمور إلى صراع قد يعيد كل عقارب الساعة إلى الوراء، في الزمن الجارح جدا، والعبرة بالخواتم، فما أسهل البدايات وما أصعب النهايات!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق