التحولات الكبرى في اختيارات اللاعبين مزدوجي الجنسية تعتبر واحدة من الظواهر التي باتت تشكل ملامح جديدة للمشهد الكروي، خصوصًا مع تزايد أعداد المواهب من أصول مغربية التي تفضل تمثيل منتخب “أسود الأطلس” بدلًا من منتخبات دول مثل بلجيكا. هذه الظاهرة التي كانت في الماضي شبه نادرة أصبحت اليوم موضوعًا يثير قلق الأوساط الرياضية وخاصة في بلجيكا، بعد أن أصبح البعض يعتبرها “نزيفًا للمواهب”.
العامل الزمني يبدو حاسمًا هنا؛ فذلك التحول اللافت اكتسب زخمًا واضحًا بعد ملحمة كأس العالم 2022 والتي شهدت فيها بلجيكا هزيمة تاريخية أمام المغرب. ذلك الإنجاز لم يتوقف عند حدود النتيجة، بل عزز مكانة المنتخب المغربي كواحد من الخيارات المفضلة للاعبين مزدوجي الجنسية، لاسيما بعد أن صنعوا إنجازًا استثنائيًا بوصولهم إلى نصف النهائي، مسجلين بذلك صفحة ذهبية جديدة في تاريخ الكرة الإفريقية والعربية.
هذه النقلة ليست محض صدفة، بل تأتي نتيجة تخطيط طويل المدى واستراتيجية محكمة من الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم. بفضل رؤية استباقية، يجري رصد المواهب المغربية في أوروبا منذ مراحل تكوينها الأولى. هذا الاهتمام المبكر يُترجم إلى دعوتهم للعب مع الفئات العمرية الصغرى، ما يوفر لهم فرصًا للتأقلم والانتماء. وتزداد جاذبية هذه الاستراتيجية بفضل البنية التحتية المتطورة، وعلى رأسها مركز محمد السادس لكرة القدم الذي أصبح معيارًا عالميًا وسببًا رئيسيًا في استقطاب المواهب.
لكن الأسباب لا تتوقف عند التخطيط الرياضي والبنية التحتية؛ هناك أيضًا عوامل اجتماعية ونفسية تلعب دورًا جوهريًا. الكثير من اللاعبين المغاربة-البلجيكيين يواجهون تحديات في الاندماج داخل المجتمع البلجيكي، ما يجعلهم يشعرون بالانتماء القوي لوطن جذورهم. في المغرب، يجدون بيئة أكثر دفئًا واحترامًا لهويتهم. هذا الاحتضان العاطفي والاجتماعي يعد عنصرًا مميزًا يساعد المغرب على اجتذاب المزيد من المواهب.
أما على الجانب البلجيكي، فبدا واضحًا أن الاتحاد المحلي لكرة القدم بدأ يفقد السيطرة تدريجيًا على هذه المواهب. محاولاتهم لإقناع اللاعبين مزدوجي الجنسية بتمثيل المنتخب البلجيكي عبر الضغط المبكر لم تأتِ بنتائج إيجابية. بل على النقيض، أسفر ذلك عن نفور بعض اللاعبين الذين رأوا في تلك المحاولات نوعًا من الإلزام والتهميش، مما دفعهم لاتخاذ قرار نهائي بارتداء قميص “أسود الأطلس”.
إقرأ ايضاً
ومن بين الأسماء البارزة التي فضّلت المغرب على بلجيكا نجد أسماء مثل بلال الخنوس، أنس زروري، وشمس الدين طالبي، بالإضافة إلى إلياس بن عاشور وغيرهم. وهذه القائمة مرشحة للزيادة مع مرور الوقت.
الظاهرة لا تقتصر على بلجيكا فحسب؛ فالمنتخب المغربي نجح أيضًا في استقطاب مواهب مزدوجة الجنسية من دول أوروبية أخرى. منها نجوم رفضوا عروض منتخبات قوية مثل هولندا وإسبانيا وفرنسا ليمثلوا المغرب. أمثلة على ذلك تشمل نصير مزراوي وسفيان أمرابط وأشرف حكيمي وإبراهيم دياز، وغيرهم من اللاعبين الذين فضلوا اللعب للمغرب لإحساسهم بالانتماء والفرصة الأكبر للإبداع.
وسط هذا السياق المربك للدول الأوروبية، أطلق الاتحاد البلجيكي دعوات لإعادة النظر في قوانين تغيير الجنسية الرياضية، معتبرين أن الوضع الحالي يمنح بعض المنتخبات “امتيازات غير عادلة”. وفي هذا الصدد، دعا مسؤولون كرويّون بارزون مثل فينسنت مانيرت إلى وضع قيود أكثر صرامة على اختيارات اللاعبين مزدوجي الجنسية. أحد مقترحاتهم المثيرة للجدل كان إلزام اللاعب باختيار المنتخب الذي يرغب في تمثيله عند بلوغه سن 18 عامًا فقط، مع مهلة لا تتجاوز 30 يومًا لتثبيت القرار.
أثارت هذه الدعوات جدلًا واسعًا حول قوانين التجنيس والاندماج الرياضي الدولي. ففي حين تسهل بعض الدول الإجراءات الخاصة بمنح الجنسية لتعزيز قوتها الرياضية، تواجه دول أخرى عقبات تجعلها تخسر فرص المنافسة العادلة. هذا التباين يفتح الباب أمام نقاش يُرجح أن يستمر حول العدالة الرياضية ومستقبل المواهب متعددة الهويات.
