تأبى حوادث التسمم الغذائي الجماعي إلا أن تواصل البصم على منحى ارتفاعي في المغرب، فما تكاد تمر أسابيع على حادثة حتى يستفيق الرأي العام على أخرى، موازاة مع سير عشرات الحالات الفردية بدورها في المنحى ذاته، مما تُفسره جمعيات ناشطة في مجال حماية المستهلك “بوجود إشكالات عديدة تعوق فعالية حملات المراقبة، التي تقوم بها الجهات المختصة للمطاعم ومحلات الوجبات السريعة والعاملين بها”.
ولا يبدو أن هذه التنظيمات، التي يصف بعضها الوضع الحالي بأنه “تسونامي تسممات غذائية”، مقتنعة بحزمة الإجراءات التي أعلن عنها وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، في إطار برنامج لإحداث عشرات المكاتب الجماعية لحفظ الصحة بميزانية تناهز مليارا و40 مليون درهم، إذ ترى أن “هذه المكاتب ليست مؤهلة للقيام بعملية مراقبة سلامة الوجبات المعروضة في المحلات الغذائية ما دامت تضم جهات لا يمت تكوينها بأي صلة لهذه المراقبة”.
ويعتبر “حماة المستهلك” أن “تشتت عمليات المراقبة بين عدد من الجهات لا يساهم سوى في تعطيل فعاليتها في الحد من حالات التسمم الغذائي، مما يقتضي تأسيس مؤسسة مستقلة لحماية المستهلك معنية بهذه العملية”، مطالبين بـ”تشدد الجماعات المحلية في مسألة التوفر على دبلوم للحصول على ترخيص بالعمل في المجال”.
وأول أمس الأربعاء استقبل المستشفى الإقليمي المختار السوسي بمدينة بيوكرى عشرة أشخاص تعرضوا لتسمم غذائي بعد تناولهم “سندويتشات” من سمك “السيبيا” في أحد محلات الوجبات الخفيفة بالمدينة، في حادثة تأتي بعد أقل من أسبوعين على تعرض 140 مواطنا لتسمم جماعي، إثر تناولهم وجبات غذائية سريعة بأحد محلات المأكولات الخفيفة بمدينة مديونة بضواحي العاصمة الاقتصادية.
وكان وزير الداخلية قد أفاد مؤخرا أن الوزارة بصدد تنفيذ “برنامج يهم إحداث 130 مكتباً جماعياً لحفظ الصحة مشتركاً بين الجماعات الترابية لتدارك الخصاص المسجل في الجماعات، التي لا تتوفر على هذا النوع من التجهيزات، إذ ستستفيد منه 1244 جماعة تنتمي إلى 53 إقليماً، وتبلغ كلفته الإجمالية 1040 مليون درهم تساهم فيها الوزارة بنسبة 50 بالمائة”.
وأبرز لفتيت أن هذه المكاتب، التي ستضمن مراقبة وضمان السلامة الصحية للمأكولات والمشروبات الغذائية بالمؤسسات الغذائية والعاملين بها وكذا احترامها شروط التخزين، سيتم دعمها بـ260 طبيباً و130 طبيباً بيطرياً و260 ممرضاً و260 تقنياً لحفظ الصحة.
سؤال النجاعة
بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، يقول إن “المغرب تعرض في الآونة الأخيرة لتسونامي التسممات الغذائية، وليس من المبالغة القول إن عدد حالات هذه التسممات مرشح للتضاعف خلال الفترة القادمة، نظراً لأن الإجراءات والتدابير التي تتخذها الحكومة للحد منها غير ناجعة وتكاد تكون ترقيعية”.
وأضاف الخراطي، أن “وزير الداخلية بدا من خلال جوابه سالف الذكر أنه أولى هذه الإشكالية أهمية كبيرة”، قبل أن يستدرك قائلا إن “المقاربة التي كشفت الوزارة عن تبنيها لتخفيض حالات التسمم الغذائي ليست في محلها، إذ إن المكاتب الصحية التي تعتزم إحداث العشرات منها ليست مؤهلة لمراقبة المنتجات الغذائية”.
وأكد أن “بقاء هذه المراقبة مقتسمة بين جهات مختلفة، وتحديدا بين المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، ووزارة الداخلية، والجماعات المحلية، ووزارة الفلاحة، وكذا وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، في الوقت الذي تُعد فيه بموجب القوانين الجاري بها العمل من صلاحية المكتب الوطني لسلامة المنتجات الغذائية، يجعلها غير ناجعة وتحتاج إلى إعادة للنظر”.
إقرأ ايضاً
ودعا الخراطي إلى مسايرة التجارب الدولية الناجحة في مجال مراقبة المُنتجات الغذائية، من خلال “إحداث مؤسسة مستقلة لحماية المستهلك تختص بتنظيم حملات المراقبة لجميع محلات المأكولات السريعة والمطاعم، ومصادر المواد الغذائية كذلك من ضيعات ومجازر وغيرهما”، مردفا أن “هذه المؤسسة يجب أن تضم أساساً المؤسسات التي تمتلك الصلاحية القانونية للقيام بعملية المراقبة”.
وتابع قائلا: “مسايرة هذه التجارب تفرض ألا يتم حصر المراقبة في نقاط بيع المأكولات والوجبات لأنها لن تفيد في شيء، بل يجب أن تكون من الحقل إلى الصحن”، متسائلاً في هذا الشأن “هل الاكتفاء بالمراقبة في المحلات يوفر ضماناً لسلامة اللحوم أو المنتجات الغذائية التي تستعملها؟”.
وأضاف المتحدث نفسه، مفصلاً أسباب عدم “فعالية جهود المراقبة بالمغرب في كبح تسونامي التسممات الغذائية”، أن “المغرب يفتقر لمصالح متخصصة في زجر الغش منذ سنة 2010، في الوقت الذي يعد الغش في المواد الغذائية أحد الأسباب الرئيسية للتسممات”.
التسيب والتكوين
أكد وديع مديح، رئيس الجامعة الوطنية لجمعيات المستهلك، أنه “لو كانت هناك مراقبة مشددة وفعّالة للمطاعم ومحلات بيع الوجبات، وإنزال عقوبات صارمة بتلك التي يتم ضبطها منتهكة شروط ومعايير السلامة الصحية لما كان هناك هذا التصاعد المستمر في حالات التسمم بجل المدن المغربية”.
ولفت مديح الانتباه، إلى أن “هذا المجال يعرف تسيبا كبيرا بالمغرب، إذ بات كل من هبّ ودب يلجأ إلى بيع المأكولات الخفيفة والسريعة في عربات على الشارع أو حتى في محلات مرخص لها، دون أن يكون له سابق علم بالمقتضيات القانونية المؤطرة أو بشروط ومعايير الجودة والسلامة الصحية الواجب توفرها في المنتج الذي يبيعه أو تلك التي ينبغي أن يحترمها خلال فترة الإعداد، وعلى رأسها النظافة”.
واسترسل قائلا: “غالبية العاملين بهذه المحلات أو العربات أو المطاعم لا يتوفرون على دبلوم من مؤسسة عمومية أو خاصة يؤهلهم لممارسة مهنة المطعمة، بخلاف ما هو حاصل في معظم الدول في العالم، التي تنص قوانينها على ضرورة التوفر على دبلوم وتكوين في هذه المهنة قبل مزاولتها”.
وأبرز أن “منح المجالس الجماعية صلاحية منح التراخيص لفتح هذه المحلات يساهم في تفاقم هذا الوضع، حيث إن عدداً من رؤساء هذه المجالس لا تهمهم سوى مصالحهم الانتخابية، مما يجعلهم يقايضون الأشخاص بالتراخيص مقابل الأصوات، دون اشتراط توفرهم على دبلومات أو تكوين في هذا المجال”.
واستحضر مديح أن “وزير الداخلية أعلن عن إحداث 130 مكتبا جماعيا لحفظ الصحة بغرض مراقبة ما تعرضه المطاعم ومحلات الوجبات الخفيفة والأشخاص العاملين بها، غير أن الإشكال في نهاية المطاف ليس في فتح المكاتب”، متسائلا في هذا الشأن: “هل توجد وفرة في أطر هذه المكاتب التي ستقوم بالمراقبة؟ وهل ستكون صارمة؟”. قبل أن يضيف “باستثناء الأطباء والممرضين والبيطريين، بأية صفة تحضر الأطر الأخرى في هذه المكاتب؟ وما علاقة تكوينها بمراقبة سلامة المنتجات الغذائية؟”.