يستعد قطاع البناء والأشغال العمومية للتمركز ضمن القطاعات الأكثر استفادة من تنظيم المغرب لمونديال 2030 وغير ذلك من الاستحقاقات الدولية الكبرى، وذلك بالنظر للأوراش الضخمة التي فُتحت وستفتح بالمملكة في هذا الصدد. غير أن القطاع عرف تحولات متسارعة خلال السنوات الأخيرة، تهدد بنسف الأدوار الاجتماعية المنتظرة من نموه، والتي يعول عليها المغرب لامتصاص حجم البطالة المتفاقمة.
ويعرف القطاع زخماً متزايدا في الآونة الأخيرة، يتجلى من خلال الزيادة الهامة في مبيعات الإسمنت، التي تعد مؤشراً رئيسياً على صحته، بحيث كشفت أحدث معطيات وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة عن ارتفاعها إلى ما يناهز 13,7 مليون طن عند متم شهر سنة 2024، أي بزيادة نسبتها 9,45 في المئة مقارنة بنهاية سنة 2023.
ومن جهة أخرى، يُنتظر أن يستفيد القطاع على المدى المتوسط من برنامج الدعم المالي المباشر المخصص لاقتناء السكن الذي وضعته الحكومة، على الرغم من التباطؤ المسجل في أحدث المؤشرات العقارية برسم الفصل الثالث من السنة الماضية.
ومن أحدث المؤشرات على هذا الزخم كذلك دخول إجبارية تأمين “مخاطر الورش” أو (TRC) حيز التنفيذ ابتداء من 30 دجنبر الماضي، وهي إلزامية جديدة تروم توفير المزيد من الحماية والأمن للأطراف المتدخلة في مشاريع البناء، خاصة وأن القطاع يعد من أكثرها تسببا في حوادث الشغل.
وفي هذا الصدد، يرى الخبير الاقتصادي ادريس الفينة، أن العبارة الشهيرة: “عندما ينتعش قطاع البناء والأشغال العمومية، ينتعش كل الاقتصاد” التي تم التعامل معها لأمد طويل على أنها حقيقة ثابتة لا جدال فيها تنحو للتغير في الآونة الأخيرة، ذلك أن “التطورات التكنولوجية المتسارعة غيّرت هذه المعادلة جذرياً، وأفقدتها جزءاً كبيراً من مصداقيتها”.
إقرأ ايضاً
وفصل الأستاذ بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي بأن قطاع البناء والشغال العمومية، الذي لا يزال يستحوذ على حصة كبيرة من الاستثمارات اليوم، لم يعد يخلق فرص عمل كما كان الحال في العقود الماضية، وفي المقابل، شهدنا تطوراً كبيراً في استخدام الآلات والتكنولوجيا الحديثة على حساب اليد العاملة البشرية، مما قلّص مدة الإنجاز وعدد العاملين في الورشات.
وبالإضافة إلى ذلك، لفت الفينة إلى أن القيمة المضافة التي يولدها القطاع ظلت شبه جامدة لسنوات، “على سبيل المثال، تحليلي لصفقة أشغال عمومية بلغت قيمتها نصف مليار درهم أظهر أنها خلقت أقل من 57 ألف يوم عمل خلال سنة ونصف، وللمقارنة، فنفس القيمة الاستثمارية قبل 30 عاماً كانت تولد حوالي 284 ألف يوم عمل”.
وعزا رئيس “المركز المستقل للتحليلات الاستراتيجية” هذا التراجع أساساً إلى الاستعمال المكثف للآلات المستوردة، والتي تهيمن اليوم على أغلب الأوراش الكبرى. مشيراً إلى أن هذا الاعتماد المتزايد على الآلات المستوردة يطرح تحديات كبرى للاقتصاد الوطني، “فعلى الرغم من تسريع الإنجاز وتحسين الكفاءة، إلا أن هذه الآلات تساهم بشكل مباشر في زيادة العجز التجاري وتفاقم اختلالات ميزان الأداءات نتيجة لارتفاع فاتورة الاستيراد” يضيف الفينة.
وخلص إلى أنه بناءً على هذه المعطيات الجديدة أصبح من الضروري إعادة تقييم الآثار الاقتصادية للاستثمارات العمومية في قطاع البناء والأشغال العمومية. وينغبي لهذا التحليل الشامل أن يشكل الأساس لوضع رؤية مستقبلية واضحة حول كيفية تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي، خلق فرص العمل، وتعزيز الاقتصاد الوطني.
