سجل سعيد بنيس، الباحث المتخصص في علم الاجتماع، أن “الانتقال الاضطراري (غير المكتمل) من مجتمع التواصل والمعرفة إلى مجتمع الاتصال والسيولة”، بفعل “الانتقال من المجتمع الواقعي إلى المجتمع الافتراضي”، كان له “تأثير قوي على طبيعة القيم داخل المجتمع المغربي في ظل التغير”؛ مما قاد “من قيم مواطنة واقعية إلى قيم مواطنة افتراضية”.
وأوضح بنيس، في دراسة جديدة، أن من محددات هذا التحول القيمي “تراجع محاضن التنشئة التقليدية”، مثل الأسرة والمدرسة والجمعية والنادي وغيرها، لصالح ما أسماه بـ”تنشئة متوحشة”؛ أي تنشئة “غير مؤطرة صاعدة من الفضاء الافتراضي”، واستعار من عالم الاجتماع زيغمونت باومان مفهومي “الصلابة” و”السيولة”.
وأبرز الباحث المتخصص في علم الاجتماع أن “المجتمعات تحولت من مرحلة الحداثة وهي حالة ‘صلبة’ وقارة إلى حالة ‘سائلة’ (ما بعد الحداثة) التي يسعى من خلالها الفرد إلى التغيير الدائم والحثيث والتحديث المكثف والزائد عن اللازم (في تحديث حالته، وصورته، وحسابه)”؛ وهو ما نتجت عنه “عدم قدرة أي شكل من أشكال الحياة المجتمعية على أن يحتفظ بشكله زمنا طويلا، تماما مثل المواد السائلة”.
وتابع: “هذه الوضعية المجتمعية السائلة التي أفرزها الانتقال إلى العالم الافتراضي أدت إلى ظهور جمهور ‘مثقف’ أو قاعدة ‘مثقفة’ لا يمكن من خلالها تمييز النخبة المثقفة عن غيرها”؛ فـ”الكل يفهم في كل شيء”، وحتى “القِيَم بمفهوم بيير بورديو فقدت مكانتها وتوازنها، وتحولت إلى مادة ‘سائلة’ يتقاذفها الجميع في ملعب مفتوح على جميع الاحتمالات، بل أضحت مؤسسة على الإغراء، والبُوزْ، وخلق الحاجات، والابتعاد عن التنوير، والفكر النقدي، والارتقاء بالفرد””.
وميّز الباحث مفاهيميا بين “ما هو افتراضي ويحيل على البيئة والفضاء العام ويقابله الفضاء والبيئة الواقعية، وما هو رقمي ويرتبط بما هو تقني من قبيل رقمنة الخدمات العمومية، وما هو ديجيتالي (بصماتي) ويشير إلى فعل وأثر وبصمة الفرد في الفضاء الافتراضي”.
وزاد: “لفظة افتراضي هي اللفظة الجامعة وتتضمن ما هو تقني (رقمي) وما هو إنساني ( ديجيتالي)”، وبالتالي “لا يمكن توصيف القيم إلا من خلال مدلول، ونعت ولفظة ديجيتالي، وهو سبب توظيفها”.
وقرأ الباحث في علم الاجتماع تداعيات “ديجيتالية” للتحولات القيمية، قائلا: “صار التحكم في مصفوفة القيم يمر من خلال ‘تجويع المتفاعلين’ ولهثهم وراء الأخبار، الحقيقية منها والزائفة، وخلق الصراعات؛ لإيصالهم لحالة إحساس بعدم الرضا عن النفس، أو الإشباع الذاتي، وإدخالهم في حالة من القلق النفسي، تطابق ما أسماه باومان “يوتوبيا سائلة” ترتكز على جماعة وأفراد وذوات دائمة التغير تسبح في عالم بدون قيم قارة”.
وشرح: “تمفصلات القيم بالمجتمع صارت رهينة بفضاء يرتكز على التغير والتشظي تحولت معه القيم بمفهومها الكلاسيكي، المعتمد على منظومة تروم العيش المشترك والرابط المجتمعي في صيغته الصلبة، إلى ضدها من قبيل ‘نشر التفاهة’ وترسيخ ‘نظرية المؤامرة’ وتجذر منطق الإيديولوجيات المتطرفة، وبزوغ عهد الميكرو-سرديات”.
وكان لهذا الانتقال إلى العالم الافتراضي “تأثير قوي على طبيعة التفاعلات بين القيم والمجتمع المغربي نتج عنه المرور من الفردانية إلى الانعزالية”، بمعنى “مجتمع يعج بأفراد يعيشون حالة من التوحد من خلال ممارساتهم ليس الرقمية فقط بل الديجيتالية كذلك”.
كما صار التعاطي مع القيم الجديدة يدخل في باب “الإدمان الافتراضي”، الذي يجمع المجتمع بـ”رباط افتراضي”، تتعدد قيمه بين “القيم التصادمية”؛ “الكزينوفوبيا، تعيّاشت، تمغرِبيت، الشوفينية، الزلّاجية، النكافة…”، و”قيم فردية متضاربة بموازاة هوية مزدوجة واقعية وافتراضية”، والانتماء للمجموعة أو العشيرة الافتراضية والالتزام بقيمها الديجيتالية، مثل حالات: “الموريش، بوركابي، ريد بيل، المجموعات النسائية، ومحبي كذا…”.
إقرأ ايضاً
ما يحدد هذا الرابط الافتراضي “ممارسات ديجيتالية”؛ من قبيل: أعجبني، وأحب، وأعلق، وأهنّئ، وأشارك، وأحظر، وأدعو للصداقة، وأتابع، وأشير، وأبلّغ…
وتتفرّق “القيم الديجيتالية” في الفضاء الرقمي، بين الإيجابي والسلبي، وفق الباحث؛ ومنها: “الانضباط المواطناتي؛ أي الأنا الذي ينضبط للنحن، مثل تجربة فيروس كورونا”، والانتقال من التواصل العمومي إلى الاتصال العمومي بـ”عقد جديد يربط الدولة بالمواطنين (رقمنة الخدمات العمومية) وسمو المواطن الافتراضي على المواطن الواقعي”، و”الالتزام الفردي” في نوع من “الممانعة والتعبئة الرقمية وإعادة تسييس الفرد”.
هذه القيم تمجّد الجسد أيضا عبر “السِّيلفي” مثلا؛ وينكشف فيها الإنسان للآخر؛ “بتشارك الأفراح والأحزان، كما تنتصر لـ”الهوياتي والحضاري والإنساني”، مثل ما وقع مع الطفل ريان، وزلزال الحوز، ووضع “الموريش”، بتذكر شعار “لا غالب إلا الله”، وما يُستحضر معه من “انتصار السلطان الموحدي يعقوب المنصور على جيوش قشتالة في معركة الأرك”.
وتعيد هذه “القيم الديجيتالية” إحياء “الرابط الوطني”، من خلال “رمزية العلم المغربي، وخريطة المملكة المغربية، وصور العاهل المغربي”، وترسّخ “قيم الخصوصية والتخلي عن قيم العولمة؛ ولاسيما مع ما حدث إبان كوفيد، وعودة القيم الترابية والمواقف المتضاربة من الإبادة بغزة وانحياز الصحافة الغربية”.
ورصد الباحث أيضا بزوغ قيمة “الفردية الجماعية”، بـ”التعاطف الإنسي اللامشروط مع الضحايا”؛ مثل “كلنا إكرام، مقاطعون، كلنا ريان، كلنا الحوز…”، وظهور “قيمة الفاعلية الديجيتالية”، مثل ما تعكسه “ردة الفعل ضد مشروع القانون 22.20، وحملة المقاطعة، وأسماء الأزقة بمدينة تمارة، و زلزال الحوز”.
ومن بين هذه القيم الجديدة قيم التفاوض والتداول رقميا حول القضايا، و”بروز ديمقراطية تداولية تشجع على مواطنة إيجابية”، و” قيم الحراك الديجيتالي”؛ فـ”الاحتجاج صار افتراضيا بوسائل رقمية”.
ونبه الباحث على قيم سلبية تبرز مع “القيم الجديدة”، ومنها “طفرة القيم المتطرفة”، من قبيل: الانتحار، التحرش الرقمي، خطاب الكراهية، العنصرية، السرديات الهامشية لمشهورين متابَعين بشكل واسع، وقيم مختلفة للتعايش داخل الفضاء الافتراضي: “بلوك، ديبلوك، تجاهل، قبول، دعوة، سينيال’، وهي ممارسات “تصب في الانعزالية وبالتالي الاحتباس الديجيتالي”.
كما حذّر بنيس من “ميوعة الذوق العام” لـ”تحكّم الخوارزميات في تطوره وانسيابيته”، وانتشار المضامين “فاست فود: الوجبات السريعة” و”انتفاء الفكر النقدي” بمتمنيات وأدعية جاهزة على سبيل المثال، و”سيولة قيم التفاعل والتقاسم”؛ “مما قد ينتج عنه خلخلة للسلم المجتمعي وخلق حالات الاضطراب المجتمعي”، وقيم “الأثننة” أي “أثننة التنوع الثقافي والتعدد اللغوي وعودة الإثنيات المحورية والمنكمشة”، و”قيم العنف الرقمي ضد المرأة”، و”قيم الانهزامية الهوياتية وسمو فكر الغيرية، وعدم التمكن من الاستقلالية والشعور بالدونية”.
واقترح الباحث المتخصص في علم الاجتماع لـ”ضبط الاستشرافات المستقبلية لمآلات القيم الديجتالية”؛ “إحداث دليل للممارسات الديجيتالية الفضلى”، و”إحداث مرصد لمحاربة خطاب الكراهية الديجيتالي”، واستحضار “دور المثقف الديجيتالي في تصويب وتأطير المنظومة القيمية”، والعمل من أجل “اجتثاث بيئة افتراضية تعج بقيم ديجيتالية سامة تتناسل بفعل البوز والسرديات الهامشية والمجموعات العدمية”، عقب “ظهور زوايا جديدة شيوخها مؤثرون لهم مريدون وأتباع بالملايين”، والتحول الدلالي في مقولة الشغل إثر “الانتقال من قيم الجهد الواقعي إلى قيم الريع الديجيتالي”، مع ما يكشفه ذلك من “انزلاق الحظوة والقدوة المجتمعية إلى قدوة وحظوة ديجيتالية تبني على قيم البوز والصدامية والعدوانية”.
