جمال الغازي / ألمانيا
حينما نتأمل في مسيرة الدكتور مصطفى الغديري، نكتشف رجلا عاش حياة مليئة بالعلم، التفاني، والمثابرة. قضى أربعين عاما في ميادين التعليم والبحث العلمي، متنقلا بين القرى والمدن، من فصول الابتدائي إلى قاعات الجامعات العالمية. في كل خطوة خطاها، حمل معه شغفا لا ينضب بالعلم، وإصرارا على نقل المعرفة للأجيال القادمة. هذه الرحلة الطويلة لم تكن مجرد مسيرة مهنية فحسب، بل تجربة إنسانية استثنائية تميزت بالعطاء والتحدي.
الدكتور مصطفى الغديري، شخصية علمية لامعة، إنسان خلوق متواضع ، فرض اسمه وتحدى كل العراقيل رغم ما عانى في قريته وطفولته ، قضى أربعين عاما في ميدان التعليم، انخرط فيه وهو شاب في العشرين من عمره، واختار إنهاء مسيرته المهنية بالمغادرة الطوعية وهو في الستين. بدأت رحلته التعليمية كمعلم في التعليم الابتدائي، حيث قضى خمس سنوات، ثم انتقل إلى التدريس في السلك الأول لمدة أربع سنوات، والسلك الثاني لسنتين. تميزت مسيرته بثلاث سنوات من العمل في مراكز تكوين الأساتذة، لتبلغ ذروتها بتقديمه خدماته للتعليم العالي لمدة سبع وعشرين عاما بجامعتي محمد بن عبد الله بفاس ومحمد الأول بوجدة.
لم تتوقف مساهماته عند حدود الوطن، بل امتدت لتشمل جامعات دولية مرموقة. بعد مغادرته المغرب في 2006، تعاقد كأستاذ زائر مع جامعات عالمية، من بينها جامعة ليون الأولى، حيث درّس تحقيق النصوص في الأدب العربي، وجامعة غرناطة التي قدّم فيها محاضرات حول الاستشراق والاستعراب والترجمة من الإسبانية إلى العربية. كذلك، حاضر في جامعة كومبلوتنسي بمدريد، ليعود بعد ست سنوات من التجوال العلمي إلى أرض الوطن، بحثا عن الراحة بعد حياة مليئة بالتحديات.
كانت مسيرة الدكتور الغديري غنية بالتنقلات، من بوادي تاوريرت ودبدو إلى مدن أحفير ووجدة والناظور. عاد إلى فاس ثم إلى وجدة عام 1985، ليواصل تدريس مختلف المستويات التعليمية. ولم يكن طالبوه من مستويات عادية، بل هم اليوم أساتذة وباحثون مرموقون، على سبيل الحصر منهم الدكتور ميمون أمسبريذ ومصطفى أمقران وغيرهم من أساتذة كلية الناظور الذين كرموه مؤخرا وكنت من الحاضرين.
كما أشرف على عشرات أطروحات الدكتوراه التي ناقشها في وجدة وفاس والرباط وغرناطة وليون.
على صعيد الأبحاث، تركز اهتمام الدكتور الغديري على التراث الأندلسي والمغربي وهو متخصص فيه، بالإضافة إلى بحوث حول تاريخ الريف. نشر العديد من المقالات في مجلات علمية دولية، وألّف عدة كتب منها: “الريف موضوعات وقضايا” و”الريف: الجزء الثاني”. اطروحة دكتوراه الدولة كانت في موضوع “الغربة في الشعر الاندلسي”، لم ينشرها بعد وهي جزءين عدتها سبع مائة صفحة . حيث قدم كذلك دراسة عن “شعر السجون في الأندلس”.
أما على الصعيد السياسي والاجتماعي، فقد كان منخرطا في عدة جمعيات، وعضوا منتخبا في مجلس الجماعة القروية لأمجاو، حيث بذل جهودا لتطوير منطقته. انخرط في حزب الاتحاد الاشتراكي وشغل عضوية المجلس الإقليمي منذ 1994، إلا أنه انسحب لاحقا منه ، كما شارك في اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان لمدة ست سنوات.
عمل الدكتور الغديري على تأليف سيرته الذاتية، تلك التي تغطي طفولته الشقية، غير أن أسبابا مادية حالت دون نشرها. حياته كانت مليئة بالمعاناة و الإنجازات، وهو يرويها بأسلوب عميق يجسد رحلة رجل عاش ليكون شعلة علم وإشعاع ثقافي، حينما سمعت بعض لقطات من سيرته الذاتية تاثرت كثيرا حتى صارت عيني تدمع.
إن مسيرة الدكتور مصطفى الغديري ليست مجرد صفحات طويت في عالم التعليم، بل هي إرث باقٍ لأجيال من الطلاب والأساتذة الذين نهلوا من علمه واستلهموا من تجربته. حياته، التي امتدت بين التعليم المحلي والدولي، كانت تجسيدا للالتزام بالعلم والتفاني في خدمة المجتمع. وما بين صفحات سيرته الذاتية غير المنشورة تكمن قصة رجل عاش حياة ملؤها الكفاح من أجل البقاء ، مقاومة التحديات ومساعدة وتوجيه التلاميذ و الطلبة ، ليستريح في النهاية وقد ترك بصمته على كل من عرفه أو تتلمذ على يديه. رحلة الدكتور الغديري تستحق أن تُروى وتُستقى منها دروس لا تنسى في العلم والحياة.
دمتم لنا قدوة ومدرسة!