أريفينو خاص سعد جيلال
في ظل التوترات المتصاعدة والخلاف العميق بين الإمارات العربية المتحدة والجزائر، الذي برز بشكل واضح منذ عام 2019، يبرع المغرب في تحويل هذا الصراع الإقليمي إلى رافعة لتعزيز نفوذه السياسي والعسكري والجيواستراتيجي بشكل لافت. فبينما تتباعد أبوظبي والجزائر بسبب تباين الرؤى حول ملفات إقليمية كالملف الليبي ودعم حركات إقليمية مختلفة، تنسج الرباط بهدوء شبكة من التحالفات والمصالح التي تعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة.
نسج على صدى الخلاف: كيف حوّلت الرباط التوتر الإماراتي-الجزائري إلى ذهب دبلوماسي؟
استطاع المغرب تحويل الأزمة الإماراتية-الجزائرية إلى فرصة ذهبية لتعزيز تحالفاته الاستراتيجية، لا سيما مع أبوظبي. فبحسب تقرير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI) لعام 2023، نجح المغرب في تعميق شراكاته الاقتصادية مع الإمارات عبر اتفاقيات استثمارية ضخمة بلغت قيمتها نحو 20 مليار دولار بين عامي 2020 و2023. ويعد مشروع أنبوب الغاز الاستراتيجي “نيجيريا-المغرب”، المدعوم إماراتياً بقوة، أحد أبرز تجليات هذا التعاون، وهو مشروع يهدد بتقليص النفوذ الطاقوي التقليدي للجزائر في أوروبا. سياسياً، استثمرت الرباط الدعم الدبلوماسي الإماراتي الثابت في حشد اعترافات دولية متزايدة بسيادته على الصحراء، حيث أكدت وزارة الخارجية المغربية أن 32 دولة قد افتتحت قنصليات لها في مدينتي العيون والداخلة منذ عام 2020، مما يعكس نجاحاً دبلوماسياً يعززه التقارب مع دول الخليج المؤثرة كالإمارات.
شفرة القوة الجديدة: هل تكتب الإمارات الفصل القادم في التفوق العسكري المغربي؟
عسكرياً، يترجم التقارب المغربي-الإماراتي إلى تعاون دفاعي متزايد يصب مباشرة في قلب سباق التسلح الإقليمي المحموم. تؤكد أحدث بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) الصادرة في أوائل عام 2025 (والتي تغطي الفترة 2020-2024)، أن المغرب حافظ على موقعه ضمن أكبر ثلاثة مستوردي أسلحة في إفريقيا، مع استمرار الإنفاق الدفاعي المغربي في النمو ليصل إلى ما يقدر بنحو 6 مليارات دولار لعام 2024. الدور الإماراتي في هذا السياق يتجاوز الدعم السياسي؛ فتقارير دفاعية حديثة تشير إلى أن أبوظبي لعبت دوراً محورياً في تسهيل وصول المغرب إلى تقنيات دفاعية متطورة، خاصة في مجال الطائرات بدون طيار وأنظمة الدفاع الجوي والسيبراني، سواء عبر صفقات مباشرة أو عبر شراكات صناعية أو تمويل مشترك لصفقات مع دول أخرى كإسرائيل والولايات المتحدة. كما تتحدث مصادر متخصصة عن استثمارات إماراتية مباشرة في مشاريع بنية تحتية دفاعية بالمغرب، مثل مراكز صيانة وتطوير لأنظمة المسيرات المتقدمة. يأتي هذا في وقت واصلت فيه الجزائر إنفاقها العسكري الضخم، والذي قدّرته مؤشرات مثل Global Firepower بنحو 21.6 مليار دولار لعام 2024، معتمدة بشكل كبير على وارداتها من روسيا. هذا التطور يعزز القدرات الردعية للمغرب بشكل كبير ويرسخ مكانته كشريك أمني أساسي للغرب في مواجهة التحديات المتزايدة بمنطقة الساحل وشمال إفريقيا.
معادلة الهيمنة الإقليمية: كيف يعيد المغرب رسم خريطة النفوذ من جبل طارق إلى الساحل؟
إقرأ ايضاً
جيوستراتيجياً، بينما تسعى الجزائر لتعزيز تحالفات مع دول كروسيا وجنوب إفريقيا، يعيد المغرب رسم خريطة نفوذه الإقليمي والدولي مستفيداً من شراكته القوية مع الإمارات. تشير تقديرات بنك إفريقيا للتنمية إلى أن التمويل الإماراتي يساهم بنحو 60% في مشروعات البنية التحتية المغربية الموجهة نحو إفريقيا جنوب الصحراء، مما يعزز مكانة المغرب كـ”بوابة إفريقيا”. جغرافياً، تمنح سيطرة المغرب على جزء من مضيق جبل طارق (الذي يمر عبره نحو 35% من التجارة البحرية العالمية) أهمية استراتيجية بالغة. كما أن طموحات المغرب في مجال الطاقة المتجددة، خاصة تصدير الهيدروجين الأخضر إلى أوروبا عبر شراكات إماراتية-ألمانية، تضعه في قلب التحولات الطاقوية العالمية. هذا المزيج من الاستقرار والموقع الاستراتيجي والمشاريع الطموحة جعل المغرب يحتل المرتبة الثانية إفريقياً في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لعام 2023، بقيمة بلغت 14 مليار دولار، وفقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD).
رقصة على حافة الهاوية؟ .. اختبار التحالفات المغربية في مواجهة المحاور المضادة
رغم هذه المكاسب الواضحة، لا تخلو الصورة من تحديات. فالجزائر تعمل على تعزيز تحالفاتها المضادة، لا سيما مع إيران (توقيع اتفاق تعاون عسكري عام 2023) ومع روسيا (صفقات تسليح تشمل طائرات سو-35 المتقدمة). ومع ذلك، يبدو أن المغرب يعتمد على استراتيجية تنويع الشراكات لمواجهة هذه التحديات. فبالإضافة إلى علاقاته التقليدية مع الغرب، أصبح عضواً رئيسياً في تحالفات جديدة، مثل “حلف الزراعة” مع إسرائيل والإمارات بهدف ضمان الأمن الغذائي، كما ذكرت مجلة جيوپوليتيكس الفرنسية. كما أن استضافة المغرب سنوياً لمناورات “الأسد الإفريقي” (African Lion) الضخمة التي تنظمها القيادة الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM)، والتي شهدت في نسختها لعام 2023 مشاركة نحو 8,000 جندي من 28 دولة، تؤكد مكانته كحليف استراتيجي موثوق للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في المنطقة.
على سبيل الخاتمة:
في خضم الصراع الإماراتي-الجزائري، ينجح المغرب في إدارة لعبة جيواستراتيجية معقدة ببراعة، مستفيداً من تحالفاته الاقتصادية المتينة مع الإمارات، وشراكاته الأمنية المتنامية مع الغرب وإسرائيل، واختراقاته الدبلوماسية المتواصلة في إفريقيا. الأرقام والمؤشرات تدل على أن الرباط قد كسبت الجولة الأولى في هذه المنافسة الإقليمية. لكن استدامة هذا النموذج الناجح تبقى مرهونة بقدرة المغرب على تجنب الانجرار إلى سباق تسلح مكلف ومُنهك، والأهم من ذلك، قدرته على ترجمة هذه المكاسب الجيواستراتيجية والاستثمارات الأجنبية إلى تنمية داخلية حقيقية ومستدامة، تعالج التحديات الاجتماعية والاقتصادية وتدعم الاستقرار طويل الأمد. المعركة الحقيقية للمستقبل قد تُحسم في الساحات الاقتصادية والتنموية، وليس فقط في ساحات النفوذ العسكري والدبلوماسي.
