كوفيد ويوميات من الحجر.. يكتبها الدكتور الحسن بلعربي..

أريفينو : 19 يوليوز 2025.

فتَح البابُ بصريرٍ كأنه ذاكرةٌ صدئةُ تنبعثُ من عمقِ الغياب، وكأن الزمنَ يئنُّ من ثناياه. ظهر إلياس، ابني ذو الثانية عشرة من عمره، على عتبةِ غرفتي، كأنه شبحُ فجرٍ لم يكتمل بعد. لم ينطق، اكتفى بنظرةٍ عابرة، ثم انسلَّ نحو الصالون، حيث يتربَّصُ التلفازُ بشغفِ الطفولة، وتعلو أصواتُ الرسومِ المتحركةِ كجوقةٍ لا تعرفُ السكون.

كانت الساعةُ تقتربُ من الثامنة، والناس صيام. أرخيتُ رأسي على الوسادة، أحاولُ أن أفرُّ من قبضةِ يومٍ بلا لون، يومٍ يشبه الأمس، ويعدُّ بغدٍ مكرور، لا يأتي إلا بالتكرارِ ذاته.

رنَّ منبّهُ زوجتي، فقامت كمن يسابقُ الزمنَ نحو غرفةِ إبننا البكر، أمين، البالغِ من العمر خمسة عشر عامًا، يفتحُ عينيه ببطء، يتفقدُ هاتفه، يضغطُ على حضورِه في حصةِ الفيزياء، ثم يعودُ إلى نومه، كأن العلمَ يُكتسبُ بالنعاس.

أعدَّت زوجتي لإلياس فطورًا متواضعًا: حليبًا باردًا، وخبزًا بالزيت. تناول صمته، وعاد إلى جلسته، بينما عادت هي إلى سريرها، تبحثُ عن حافةِ راحةٍ لا تأتي.

عند التاسعة، أيقظتُ نادين، إبنتنا ذاتَ السبعةِ أعوام، جلست نصف نائمة، تحلُّ مسائلَ الرياضيات، كأنما تحاربُ النومَ، لا الأرقام.

خلعتُ جزءًا من منامتي، وارتديتُ قميصًا مكويًا، وجلستُ قبالة شاشة حاسوبي لإلقاء الدرس. أشرحُ وأشرحُ، كمن ينفخُ الحياةَ في زجاجةٍ باردة. فجأة، صاحت نادين: “كثيرةٌ هي الفروض!”، فوقفَ الدرسُ، واعتذرتُ، وعدتُ إليها كجنديٍّ مهزوم.

لكن إلياس، دائمُ المفاجآت، بدأ يعزفُ على البيانو، نغماتٍ كلاسيكيةً بإصرارِ طفلٍ لا يعرفُ الساعة. ترجوه أمه أن يهدأ، وهو لا يسمعُ غير موسيقاه.

عدتُ إلى دروسي، أشرحُ وأشرحُ. تناديني أصواتٌ من كلِّ صوب: نادين تئنُّ، وإلياس يطيرُ من غرفةٍ إلى أخرى، وزوجتي تركضُ وراءه، بكلماتٍ أرهقها التعب.

عندما أنهيت الدرس، بدّلتُ سروالي، ووضعتُ كمامتي، وحملتُ زجاجةَ معقَم اليدين. خرجتُ كما يخرجُ جنديٌّ إلى معركة غير منظورة.

في الشارع، بدت المدينةُ كأنها تهمسُ للغائبين، وكأنها تودعُ أرواحَها بصمتٍ عميق. عند الظهيرة، وقفَ العالمُ دقيقةَ صمتٍ، سقطَ الموتى في دورِ المسنين، ومدريد تخجلُ من جثثها، تحاول أن تخفي أنينها خلفَ الجدران.

عدتُ إلى البيت، خلعتُ ثيابي عند الباب، ولبستُ منامتي من جديد. نادين على الأريكة، أنهت فروضها، والهاتفُ لا يهدأ، رسالةٌ من صديقٍ: “قائمةٌ بالدولِ التي قصفتها أمريكا منذ الحربِ العالمية الثانية”… قائمةٌ طويلةٌ، ثقيلةٌ كخطيئةٍ متوارثة.

أيقنتُ أن الحربَ القادمة لن تكون كما نعرفها، ستأتي بصمتٍ، بلا مدافعَ، بلا دماء، لكنها أشدُّ ضراوةً.

في العصر، دقت مدرِّبةُ النطق، وإلياس، وجهًا لوجهٍ مع الهاتف، يحاول نطقَ الكلماتِ والتمارين تتساقط عليه كالمطر، كأنها زخات من الأحلام التي تتلاشى بين يديه. ثم ينتقل إلى فروض اللغة والرياضيات، يمصّ قلماً بين أسنانه، كأنه يبحث عن حياة يعضّ عليها، أو عن معنى يختبئ بين حروف الأرقام والكلمات.

رغبتُ في دخول الحمام، فوجدت أمين فيه، قد حوله إلى غرفة بخار سرية، كأنها سر من أسرار العالم. انتظرت بصمت، وبعد نصف ساعة خرج، وخلفه سحابة من الضباب، كأنها غيمة من الأحلام المفقودة. دخلت، وما إن استقرت بي المقام، حتى سمعت الطرق على الباب، وصرخة نادين تتردد في الأرجاء: — أبي! أرجوك، أريد الحمام! نادين، دائمًا نادين…

من المطبخ، تصعد أصوات الأواني كأنها معركة تُخاض، وزوجتي تطهو، لا تحب أن أشاركها، تقول إنني أُحدث فوضى في كل شيء. أمين لا يريد “الحريرة”، وإلياس يطلب فطائر اللحم، ونادين تتوق إلى فطائر الدجاج… كلٌ يطالب بحصته، كأننا في مطعم بلا طهاة، وكلٌّ يصرخ ليأخذ حقّه.

أعود إلى الأريكة، والهاتف لا يرحم. مصطفى من مايوركا يرسل لي تسجيلًا لموخيكا، وهو يتحدث عن الحياة، عن الشعبوية، عن الوقت الذي نهدره في ملاحقة ما لا يُشبع. قال: “الوقت هو العملة الحقيقية الوحيدة. لا تضيّعوه.

” صدقتَ يا موخيكا… لا أحد يشتري الوقت، ولا أحد يعيده.

حين أذن المغرب، جلسنا حول المائدة، والأطفال مشدودون إلى هواتفهم، واللقمات تتوه في طريقها إلى أفواههم، كأنها تائهة في رحلة بلا نهاية. صرخت في وجوههم، فرفعوا رؤوسهم ببطء، ووضعوا هواتفهمجانبا.

بعد الإفطار، عادت زوجتي إلى المطبخ، وأنا بقيت في مكاني، يغزو النوم جسدي، كما يغزو الحزن القلب، ويخيّم السكون على المكان.

فتحت عينيّ بعد غفوة، ورأيتهم: عائلتي، جالسون حولي، أفواههم نصف مفتوحة، وعيونهم منقادة إلى شاشات هواتفهم الذكية…

اللهمّ، كم نُعاقب أنفسنا، وكلما زاد ذكاء هذا العالم، زادت بلادتنا، وزادت حيرتنا في بحرٍ من التقدم والجمود.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button