ذ. ميمون حرطيت يكتب ..قصة قصيرة: فوهة ومنظار

18 يوليو 2020آخر تحديث :
ذ. ميمون حرطيت يكتب ..قصة قصيرة: فوهة ومنظار

أريفينو : 18 يوليوز 2020.

ميمون حرطيت*

أجهد الراوي نفسه ليحكي، فقال: ربما أجدني مختلفا بعض الشيء عن الآخرين ، في القرار الذي اتخذته؛ فاختياري الوقوف أمام نافذة الغرفة العلوية المحطمة الزجاج، والمواربة كليا إلا من فجوة صغيرة في أسفلها ، مغامرة غير محسومة العواقب، وغيري أكيد لن يفعلها.
أخذت منظاري، وبدأت أترقب… ومن حين لآخر أصور بعض المشاهد خفية، بينما آلة التسجيل الحساسة في اشتغال بلا توقف.. المطر ينهمر بغزارة بحيث يكاد يحجب الرؤية، الشارع صامت كالموت؛ عبَرَ شيخ إلى الجهة حيث أتواجد، كان يبدو محدب الظهر من وطء الزمن ، والمصائب، وعلى الرصيف سقط هامدا…
العمارات، والمنازل متهاوية أنصافها، أو سقوفها، أو أسسها…البناء في صراع غير متكافئ مع الدمار،
رُحت بلا كلل أصوّب منظاري في كل الاتجاهات، وفجأة اقتنصته،؛ هو مختبئ مثلي، لا يظهر منه سوى فوهة سلاحه، قلت مع نفسي: لو كان معي سلاح لأرديته، لكنني استدركت في حينه بأنني لست قاتلا،…أخذت مصورتي، والتقطت لفوهة سلاحه صورة بلا وميض…
خف هطول المطر وبدأت الرؤية تتضح أكثر…في الأسفل المقابل لجهتي باب ينفتح ببطء؛ يظهر رجل كهل وامرأة؛ ينظر الرجل ذات اليمين ؛ وذات الشمال، ثم يسير بمحاذاة الركام، أراد أن يقطع الطريق، لكنه غيّر -على ما يبدو- رأيه في آخر لحظة، ربما خوفا، أو لأنه لاحظ جثة الشيخ على الرصيف، وعندما تجاوزه قليلا عبَر الطريقَ بهرولة، كانت في يده قفة فارغة، تساءلت مع نفسي: لمَ القفة؟ المرأة لا تزال تطل من خلف الباب ارفع منظاري إلى القناص؛ الفوهة تتحرك،، أسلط جهازي على الكهل، إنه يكاد ينجو، إنه يعدو على الرصيف، أسمع صدى خطواته المتسارعة ، لا لم ينج؛ للأسف! لقد وصلتني للتوّ صرخته، وصدى ارتطام جسده على الطوار، تسرع المرأة نحو الرجل من دون حذر، فيرديها القناص في وسط الشارع…الآن أسمع أزيزا ، ثم صفيرا، فدويّا انهارَ على إثره جزء من العمارة التي على يميني، و ارتجت الغرفة التي أتواجد بها، فتساقط كثيف بقايا الزلط على رأسي، تلك كانت غارة…لقد بدأت الأمور تأخذ منحى أكثر تراجيدية، ثلاث مدفعيات تستعرض الدمار؛ الأولى تصوب رشاشها إلى الأمام، والثانية إلى اليمين والثالثة إلى الشمال، تطلق من حين لآخر أعيرتها النارية على “الممكن من المستحيل”×. مزقت الدبابات بالتناوب جثة المرأة إلى أشلاء ، التصق بعضه في تجاويف عجلاتها الحديدية …ظلت الغرفة التي أتواجد بها تهتز إلى أن مرت الآلات الحاصدة لكل شيء..حالتي النفسية في توتر واضطراب… مزيج من القلق والخوف والحسرة…انقشع بعض السحاب أخيرا عن شمس تميل نحو المغيب مسلطة أشعتها الصفراء على الجهة المقابلة…القناص لم يعد متواجدا بالمكان، أو على الأقل لم أعد أرى فوهة سلاحه…هل رآني؟ هل غَيّر مخبأه ليرديني؟ هل تلقفته قذيفة، أو رصاصة رشاش؟ ، كل شيء ممكن…حزمت حوائجي ؛ إلا الة التسجيل فقد تركتها مشغلة، ابتعدت عن النافذة، لكنني لم أقرر في أمر خروجي من عدمه ، فالخارج ميت والماكث ينتظر، وخلال الاِنتظار يتسرب الموت ببطء، وأنا تحت وطاة هذا الضغط الرهيب، كنت مع ذلك أتساءل: هل الرجلان اللذان قُتِلا، والمرأة التي قتلت ثم دُهست والذين رُيِّبت من فوقهم المباني، والذين سيُقتلون بعد قليل، أو غدا، أو بعده؛ ماذا فعلوا؟ هل هم من معارضي النظام، أم من مناصريه؟ هل هم سُنيون أم شيعة؟ هل هم إخوانيون أم عَلمانيون؟ هل هم من الأهالي، أم من العابرين ؟ لا أحد يجزم بشيء، لكن الكل يعلم ممن سينجو أنهم من بني البشر…
انتهى الراوي من السرد، لكن الدمار ما يزال يدُكّ الإنسان…

× اقتبست(الممكن من المستحيل) من عنوان المجموعة القصصية للأديب والصحافي المرحوم عبد الجبار السحيمي.

*أستاذ متقاعد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق