توظيف الذّاكرة الاتّصاليّة في ” مقامات زمن العنبر” لمحمّد عبدالوارث

3 يوليو 2022آخر تحديث :
توظيف الذّاكرة الاتّصاليّة في ” مقامات زمن العنبر” لمحمّد عبدالوارث

عـلاء لازم العيـسى : البصرة

يختلف المكان الرّوائيّ عن المكان الواقعي المتجسّد ، أنّ المكان الأوّل (( صنعته اللغة انصياعًا لأغراض التخييل الروائيّ وحاجاته )) ، وهو قد يشبه عالم الواقع وقد يختلف عنه . وكلّما كانت علاقة الرّوائيّ بواقعه الخارجي الّذي نشأ به ، وبأشيائه وشخصيّاته وحوادثه ، علاقة حميميّة وواعية ، ومستمرّة عبر الزّمن ، وهو ما لا يمكن امتلاكه دون المعايشة والتّذكّر ، كان الأقدر على تصوير مكانٍ روائي نابض بالحركة والحياة والدّلالة . وهذا ما أحسست به بعد قراءتي للمنجز الجديد للأديب المصري المتألّق محمّد عبدالوارث (( مقامات زمن العنبر )) بطبعتها الأولى الصّادرة عن ديوان العرب للنشر والتوزيع ، مصر ، بورسعيد / 2022.
( 2 )
إنّ استثمار الأستاذ الكاتب ، ومنذ السطر الاستهلالي ، لضمير المتكلّم الشخصيّ ، يجعلنا نهتمّ بعلاقة السارد بالحكاية على مستوى حضور فعل النظر (( عبر زجاج الشّبّاك ))(ص7) بكلّ ما يعنيه الزّجاج من انتاجيّة شفيفة توصل الدلالة دون عسر أو تكلّف ، باعتبار أنّ الرؤية البسيطة بالعين المجرّدة لا تكشف لنا إلّا عن عالم مسطّح فقط . واهتمامنا أيضًا بإحساسه بالاستمراريّة عبر الزمن المتمثّل بمحطّة ( قطار أبي قير ) ، بكل ما تحمل هذه الكلمة من أبعاد تاريخيّة ، وأسطوريّة ، وشعبيّة ، وهو ما لا يمكن امتلاكه دون الذاكرة والتذكّر . وقد اختار الكاتب في متواليته القصصيّة أكثر من زاوية لجعل مكانه الرّوائي مُدرَكًا لدى المتلقّي ، منطلقًا في بنائه من الحياة الاجتماعيّة والشعبيّة لمدينته الاسكندريّة ذات العمق الجاذب ، والحاضنة لموزائيك بشريّ متعدّد العروق والأديان والجنسيّات والألوان ، فحي الحضرة البحريّة (( يعجّ بالأجانب واليونانيين وبعض الطلاينة والشوام المسيحيين )) ، وهناك الجميلة كيتي المسيحيّة التي (( ترتبط وأخوتها وأسرتها بعلاقات حميمة مع جميع الجيران في الحي )).
( 3 )
وبلغة سلسة تتداخل فيها الفصحى بالعاميّة الاسكندرانيّة ، وبجمل وصفيّة طوبوغرافيّة قصيرة ومختزلة للأماكن والشخصيّات المختلفة باختلاف الثقافات ، صوّر لنا السّارد الرائي الأجواء المفرحة الصاخبة ، والانفتاح الثقافي والاجتماعي والمدني لسكّان مدينته ( موضة الهيبيز وفريق الخنافس ، وأغاني المطربين الكبار ، وسينما لاجيتيه التي تعني البهجة باللغة الفرنسيّة ، وسينما أوديون بحي كامب شيزار التي يملكها خواجة يوناني ، ومسرح اللونابارك وتعني ساحة آلهة القمر عند اليونانيين والّذي طالما شهد عروضًا مسرحيّة رائعة ، وقصر ثقافة الحريّة أو نادي محمّد علي ) . كما أبدع في رسم صورة حميميّة للإسكندرية الحاضنة للوافدين من مختلف الأجيال والأفكار والاتّجاهات السياسيّة ، فالمتوالية الرابعة تتكلم عن حمادة وعائلته الّذين (( وفدوا من القاهرة محمّلين بالقليل من الأثاث والكثير من خيبة الأمل والإحباط ، فالأب موظّف بجامعة القاهرة طارده انتماؤه إلى حزب مصر الفتاة حتى أقلق مضجعه )) ، الأب المتمرّد الّذي صافحت أقدامه بلاط معتقل ماقوسة بحيّ الزّيتون .
( 4 )
وفي متوالية السكّة الحمرا يتنقّل الكاتب ، على الصعيد السّردي ، برشاقة عالية وبراعة لا تضاهى بين وظيفة ( الراوي الناقل ) لتحذير الخالة أمّ جروبي من السّكّة الحمرا ، وتشديدها المشحون بالرعب والهلع والخوف من فكرة الموت ، للصبية إذا ما دعت ضرورة إلى عبور هذه السّكّة (( فكم سردت لنا خالتي أسماء من وقعوا في هذه السّكّة وفاضت أرواحهم إلى بارئها وهو يعبرون من حيّ الخضرة البحريّة حيّ الطبقة المتوسّطة إلى حيّ الإبراهيميّة )) . ووظيفة ( الراوي المبئر ) الذي تكلّم عن السكّة نفسها ، ولكنه نجح نجاحًا باهرًا في تصوير مشهد الإحساس بالاختلاف ، من خلال ربط المكان بتقنية الثنائيّات الضديّة داخل المشهد الواحد فتحوّل اسلوب القصّ من الهلع والذعر والخوف من فكرة الموت والتلاشي ، إلى الإحساس بالإلفة والفرح والشّوق ، نتيجة لاستحضار اسم الرئيس الرمز جمال عبدالناصر الّذي يمكن أن يحمل ـــ عند أغلب المصريين ـــ دلالات إيحائيّة ترتبط أساسًا بالوطنيّة والنهوض والتغيير وانبعاث غد جديد ، أو التفكير ببعض هذه المفاهيم على أقل تقدير . فقد تحوّل التجمهر المنتظر لموكب الرئيس إلى (( طقس غير بشري )) ، فالسكون ران على الشّارع ، والحركة توقّفت تمامًا ، فيما نسمع هتافات تتعالى متناقلة من جانب إلى آخر كأنّما هي كهرباء تسري في سلك ، كلّما وصلت إلى مكان ضجّ الهتاف والصّياح والجلبة بين الصفوف ، وصار يسري بين النّاس من بعضهم البعض كأنّه مسّ سحر ، حتى الواقف في صمت منهم تجده في لحظة قد انفعل ورفع يده ملوّحًا أو مصفّقًا وهو يهتف مشاركًا الجموع ، ناسين فكرة الموت ولسعة الشمس المحرقة .
( 5 )
وبدلًا من أن يستغرق الأستاذ محمّد عبدالوارث في الخيال والمجاز والرّمز ، كما يفعل أغلب الروائيين ، حاول جاهدًا عكس صور الواقع بأجوائه وتفصيلاته ، وبأسماء شخصيّاته التي تحمل دلالات شعبيّة مدهشة وطريفة ، وأن يلتقط مشاهد العفويّة والحركات اللاشعوريّة بأدقّ تفاصيلها بلغة مفهومة وسلسة دون تكلّف . كتصويره لأحد الصّبية وهو يلفّ خيط الدّوبار الأبيض فقد (( كان يُخرج لسانه ضاغطًا عليه بشفتيه كأنّما يستمدّ من هذه الحركة قوّة وعزيمة ))( ص14 ) ، أو منظر تدافع الصبية في طابور السّينما بعد حجز تذاكر الدّخول ( ص24 ) ، أو شخصيّة المدعو ميمي جروبي الوصوليّة الّتي تُحبّ الإمارة وإن كانت على الحجارة فهو أوّل من قلّد الهيبز في المدينة ( ص15 ) ، وأوّل من أطلق لحيته من الشّباب مع الملتحين وحشا كلامه بعبارات دينيّة ( ص61 ) .

( 6 )
وبعد وصف الانفتاح والأجواء الجاذبة لمدينته السّاحرة ، لم ينس الراوي أن يتوقف قليلًا ليصوّر الحياة السياسيّة التي كانت سائدة في بلاده وطبيعة الثقافة السّائدة قبل ثورة 23 يوليو 1952 ، والقائمة على التعدّدية الحزبيّة (( حتى جاء الوقت الّذي صدر فيه القرار لكلّ الفرق بوقف النّضال والجهاد من أجل مصر )) ( ص29 ) ، فانصاع الجميع ، خدمة للصالح العام ، للأمر ما عدا فرقة واحدة لم تنصع للأمر . وعادت تلك الفرقة من جديد عقب وفاة الرئيس عبدالناصر وتولّي الرئيس السّادات الحكم فـ (( فتح الأبواب للجماعات الدّينيّة للظهور على السّاحة ؛ وذلك لمواجهة التيّارات الماركسيّة واليساريّة النشطة ، والتي لها أعضاء واتباع منتشرون في كلّ السّاحات الثقافيّة والصحفيّة والأدبيّة وتناهض سياسته في الحكم )) ( ص58 ) .
( 7 )
أخيرًا ، لقد وظّف الأستاذ محمّد عبدالوارث في متواليته القصصيّة ” مقامات زمن العنبر ” ذاكرته الاتّصاليّة الزّاخرة بالعطاء والحضور ، والتي تشمل الذكريات التي تتّصل بالماضي القريب ، تلك الذكريات التي يشترك فيها الفرد مع بقيّة أفراد جماعته ( جيله ) المعاصرين له كشاهد عيان للأحداث ، أو مشارك في صنعها ، أو أحد المعاصرين لوقوعها ، ولهذا السبب اختار معظم شخصيّات روايته من حياة مدينته الاسكندريّة بكلّ ما تعنيه الاسكندريّة من أصالة وعفوية وانفتاح وابداع ، فكانت صورة المدينة كأروع ما يكون تصويرًا وتوثيقًا .
………………………………..
× الأستاذ محمّد عبدالوارث قاص وناقد مصريّ ولد سنة 1950 نائب رئيس اتّحاد كتّاب مصر فرع الاسكندريّة سابقًا ونائب رئيس تحرير مجلة ” نادي القصّة ” في الاسكندريّة سابقًا . ابتدأ النشر سنة 1987 وحصل على عدّة أدبيّة صدرت له ثلاث مجموعات قصصيّة : يحدث في الليل / زمن بعث المراثي / خمس ملاعق صغيرة للغيب .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق