قراءة سيميولوجية في نص “لاكوست Lacoste” للأديب الناظوري ميمون حرش

18 سبتمبر 2018آخر تحديث :
قراءة سيميولوجية في نص “لاكوست Lacoste” للأديب الناظوري ميمون حرش
قراءة سيميولوجية في نص "لاكوست Lacoste" لميمون حرش**

لاكوست Lacoste

يخترق زجاجي تمساحٌ بحجم شاحنة ڤـولڤـو.. يزدرد نخلتي التي غرستُ بقضمة واحدة، ثم يلتفتُ إلي.. كنت أمامه مباشرة، محنطاً وجامداٌ..

عيناي في عينيه، قال: ” أنت لا تخاف مني.. ها.. !”

لم ينتظر جوابي، التهمني كتحلية، عجز عن أن يبلعني حين غرستُ أسناني في لسانه..

بقدمي، وجذعي سددتُ بلعومه.. اختنق.. لفظني، مبللاً، وفي الأرض تمرغتُ..

فقط لم أفهم لماذا أنا عارٍ هكذا، وقد كنتُ، قبل النوم، مستوراً..

القراءة:

قد يتساءل البعض كيف يمكن أن تستقيم القراءة السيميولوجية Sémiologique لنص أدبي عبارة عن قصة قصيرة جدا (رغم أن السيميولوجيا في حد ذاتها كعلم للعلامات، والنقد الأدبي كعلم لتحليل النصوص الأدبية، يلتقيان في أن الأولى تهتم بشكل النص من خلال التفكيك والتركيب قصد إعادة بناءه من جديد1)، وقد يذهب البعض الآخر لوصف الأمر بخلط الأجناس الإبداعية وتحوير الصورة الأدبية إلى صورة إيقونية Iconique قابلة للتفكيك والتأويل… لقد لفت انتباهي نص “لاكوست” – وهو لا محالة نص أدبي ينتمي لجنس القصة القصيرة جدا- كونه نصا مُثقلا بالعلامات والرموز والدلالات رغم صغر حجمه وشح محتواه اللساني من خلال اعتماد لغة بسيطة ومصطلحات في متناول القارئ الهاوي، لكنها في الوقت نفسه حُبلى بالرموز والعلامات التي نجدها في النص تأخذ اتجاهين: الرموز والعلامات التجارية حيث تم التطرق في النص لعلامتيْ “لاكوست” و “ڤـولڤـو”، الأولى مختصة في صناعة الملابس والأدوات الرياضية والعطور وقد امتد “الهولدينغ” ليشمل منتوجات أخرى، في حين أن الثانية متخصصة في سيارات الحجم الثقيل والرافعات والشاحنات… وقد تمططت أيضا بدورها لتدخل في تصنيع البوارج والطائرات..

إذا سلمنا بأن السيميولوجيا، حسب “دي سوسير”، علمٌ موضوعه أنواع الدلالات والمعاني وأنه يهتم بدراسة الرموز والدلالات في المجتمع،2 وبأن اللغة ماهي إلا نظام من العلامات التي تُعبر عن الأفكار، وأن العلامة اللغوية تتكون من ثنائي متلازم هما “الدال” و”المدلول” le signifiant et le signifié، فإننا نجد أنفسنا مضطرين أمام نص “لاكوست” لتقديم تحليل فني أدبي من جهة، وتبرير أو تفسير ما به من دلالات ورموز سواء المرئية منها أو تلك التي بين السطور، من خلال التحليل السيميولوجي من جهة ثانية، والذي يخول دراسة كل ما هو لغوي وغير لغوي عكس حقل اللسانيات الذي يختص في كل ما هو لفظي ولغوي فقط، فالسيميولوجيا تتعداه من كل ما هو منطوق إلى ما هو بصري…3 وذلك لاعتبارات عدة أهمها أن النص به حمولة ثقافية وفكرية وتجارية ناهيك عن الحمولة الأدبية والسردية..

بعد العنوان ندخل في النص مباشرة وننجذب لأعماقه انجذابا بعدما نجح الكاتب في أسرنا بقوة من خلال بداية ديناميكية حركية إذ يقول: “يخترقُ زجاجي تمساحٌ بحجم شاحنة ڤـولڤـو.. يزدرد نخلتي التي غرستُ بقضمة واحدة..”، يبدو الأمر عاديا من ناحية الشكل وخرافيا من حيث المضمون، يمزج بين الغرائبية والخيال.. كيف ذلك؟

يحيلنا الكاتب بقوله “يخترق زجاجي” أنه داخل بيته أو غرفة نومه وأن فعل الاختراق جاء أولا ثم تلاه فعل ازدراد النخلة.. فهل يا ترى تُغرس النخلة بفراعة طولها وضخامة شكلها في غرفة النوم؟ طبعا لا، وإلا لتحدث الكاتب عن وجوده في الحديقة أو الصحراء أو مكان آخر يمكن للنخلة أن تزرع فيه… النخلة في النص رمز له مدلوله الخاص في ذهن الكاتب، وقد تعمد ربطها بالتمساح، الذي نفهم جيدا أنه لا يطير ولا يمكن بتاتا أن يخترق بهذا الشكل العنيف زجاج البيت ويلتهم النخلة وهو حيوان لاحم، فلماذا كل هذا الترميز ولأي غرض؟

ترمز النخلة لعدة دلالات تختلف حسب الحقول والمجالات كالشعر والرواية والمسرح والسينما والتشكيل والصورة الإشهارية وغيرها.. لكنها كرمز نتفق على خصوصيتها في التأقلم والصبر والعطاء والبقاء والوجود، وتتقاطع في ذلك مع شجرة الزيتون في القدسية4 وذلك لورودهما في القرآن الكريم معا من جهة وفي الصبر والقدم والعطاء من جهة ثانية، لكنها تختلف عنها من حيث فراعة الطول وجمال الشكل وخصوصية المكان (الصحراء والواحات). لا شك في أن النخلة اكتست قدسية ومكانة خاصة في كل الحضارات والديانات السماوية والوضعية وهو ما جعلها تبقى مصونة ليومنا هذا.

ونجد النخلة في الشعر العربي تارة ترمز للمرأة كقول امرئ القيس:

وفرعٍ يزين المتن أسودَ فاحمٍ ** أثيتٍ كقِنو النخلة المتعثكل.

أو ترمز للعطاء رغم الكيد كقول الشاعر:

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا ** يُرمى بحجر فيلقي أطيب الثمر

لا يسعفنا المجال لذكر التجليات الرمزية للنخلة في كل المجالات، لكن يمكن التأكيد على أنها تتأرجح بين الثبات والصبر والجمال والعطاء والأصالة والتجذر والطول الفارع… وغيرها من الدلالات التي ترتبط بسياقات متعددة حسب نظرة المبدع ومضمون رسالته المشفرة. فنجدها مثلا في “اللوغو” أو شعار بعض الدول كالسعودية ترمز للوطن والأرض، كما يمكن أن ترمز للأصالة والجودة والفرادة ما جعل أحد المهرجانات العالمية للسينما يتخذها كرمز لجوائزه (السعفة الذهبية)… وفي الملصقات الإشهارية تتفاوت الدلالات والمعاني حسب نوعية المنتوج والغرض منه. أما في الرواية فالنخلة حاضرة بقوة برمزيات ودلالات مختلفة، وهناك مقالات عديدة تناولت فقط رمزية هذه الشجرة في روايات محددة.

نعود للنص الذي بين أيدينا فنلاحظ، إذا شئنا، ثنائية تفرض نفسها على القارئ، ثنائية الخير والشر، الغاشم المستبد والبريء المظلوم، الهاجم والمهجوم عليه، تلك ثنائية جسّدها صاحبنا في التمساح والنخلة، الأول بشع مفترس ومتحرك، وصف الناسُ دموعه بالغدر والافتراس دون رحمة أو شفقة، فيقال في كل من يبكي لكسب شفقة الناس والغدر بهم “دموع التماسيح”، أما الرمز الثاني (أي النخلة) فهو ثابت مسالم يرمز إلى الأرض والوطن والثقافة المحلية والتراث الشعبي والتقاليد والعادات وكل الماضي الجميل بأحلامه وآماله وآلامه…

لقد اتضحت الرؤيا نسبيا… وبدأنا ننساق ببطء نحو فكر الكاتب وما أراد تبليغه لنا من خلال رسالته هاته التي ينهيها بالحلم المزعج أو الكابوس الذي لا ينتهي، كابوس تكون نهايته واقعا مريرا يُعرّي المرء من أخلاقه ووقاره، ويُجرده من ثقافته وتاريخ أمجاده وأجداده ويزرع فيه مسخا شرها لا يعرف غير ثقافة الاستهلاك والتبعية… يؤكد الكاتب ذلك بتساؤله بعد الاستيقاظ من الحلم بقوله: “لماذا أنا عارٍ هكذا، وقد كنتُ، قبل النوم، مستوراً؟”.

يقدم لنا الكاتب فكرة مُضمرة لكنها ملغومة لكل من يتلقفها دون معرفة سابقة بعالم الإشهار و”الميديا”، هذا الوحش الذي صنعته الرأسمالية الجشعة والتهم تراثنا وثقافتنا وأصبح يصول ويجول بين ظهرانينا دون حسيب أو رقيب، باسم العولمة والتطور الصناعي والموضة والانفتاح.. وما إلى ذلك من المفاهيم الرنانة التي تصم آذاننا ولا تصدر عنها الموسيقى الموعودة…

شركة “لاكوست” – وغيرها من المنتوجات والعلامات التجارية العالمية المعروفة -، عندما اتخذت، كماركة مسجلة فرنسية، التمساح رمزا لها ولمنتوجاتها، كان القصد تشبيه قوة الملابس ومتانتها بجلد ذلك المخلوق الجبار (التمساح)، لكنها لم تدرك – سواء “لاكوست” وغيرها من الماركات العالمية – أنها ما كانت لتعيش أبدا لو استمرت في فرنسا لوحدها، ولكي تعيش فعليها التمدد والزحف نحو أسواق جديدة، بالقوة أحيانا والحيلة أطوارا أخرى، وهو ما يصفه الكاتب ب”اختراق الزجاج”، فالزجاج مادة تحميك من البرد والمطر لكنها لا تحميك من قوة الصورة وخطورتها ولا تحميك من الإعلام والإشهار الذي يهجم عليك في بيتك دون إذنٍ مسبقٍ أو تصريح، رغما عنك يُعشش في دماغك وينخر في مبادئك وأخلاقك… فالزجاج مجازا تعني الحماية غير المضمونة والمخترقة… والتمساح يرمز للميديا والإشهار والعولمة عموما، أما النخلة فهي الثوابت والأخلاق والأرض والعطاء.. صورة ميتافيزيقية métaphysique يحاول الكاتب تقديمها لنا في شكل قصة قصيرة جدا، يمكن أيضا أن تكون صورة سريالية surréaliste من خلال العناصر والرموز المركبة والمختارة بعناية فائقة (لاكوست، التمساح، النخلة، الزجاج، ڤـولڤـو، الأسنان…)

نلاحظ أن الكاتب عبّر عن شكل من أشكال المقاومة الشرسة التي تفضي إلى النجاة وإلى العودة إلى الحياة والحرية، وقبلها كانت محاورة غادرة وغير متكافئة بين طرفين نقيضين: التمساح الضخم بحجم الشاحنة وبأسلحته الفتاكة من أسنان ومخالب وقوة جسمانية رهيبة وبين شخص مسالم أعزل في بيته ومع نخلته التي زرعها بيده، التهم الوحش النخلة أولا ليرهب صديقنا الذي تحداه ولم يخف منه، فكان به أن ابتلعه بسهولة، فيعبر الكاتب عن ذلك بقوله:

“… عيناي في عينيه، قال: ” أنت لا تخاف مني.. ها.. !”

لم ينتظر جوابي، التهمني كتحلية، عجز عن أن يبلعني حين غرستُ أسناني في لسانه..

بقدمي، وجذعي سددتُ بلعومه.. اختنق.. لفظني، مبللاً، وفي الأرض تمرغتُ..”

يعود الكاتب للثنائية الرمزية أو التضاد الرمزي الذي استعمله آنفا فيتحدث عن اللسان والأسنان، وبعدها على الجذع والبلعوم، وأخيرا البلل والتمرغ.. أظهر لنا في البداية قوة التمساح وفظاعة شكله المخيف والمرهب، لكنه أعطانا صورة عن نقطة ضعفه وسر هزيمته، فلم يشأ الحديث عن أسنان التمساح وقوة فكه في القضم والتمزيق بل تحدث عن لسانه، الحلقة الأضعف في جسم التمساح، وكذلك البلعوم، بالمقابل يقاوم هو بأسنانه التي غرسها في لسان رخو وسد بجذعه وقدميه البلعوم فكان لقمة غير سائغة بل كادت تقتل التمساح وتخنقه مما أرغمه على تلفظها وإرجاعها خوفا من الموت اختناقا… يتمرغ الكاتب أخيرا للتخلص من البلل ومن بقايا ما جاء به من جوف التمساح، وهو شكل آخر من أشكال المقاومة التي يريد أن يمررها لنا في قالب رمزي كذلك.

بالرجوع إلى شخصية الكاتب ومعرفتي الخاصة بطريقة تفكيره وتمرده على الواقع المفروض الذي انعدمت فيه الأخلاق والمبادئ وحلت محلها الرذيلة والتقليد الأجوف، ونظرا لاشتغالي معه عقدا ونيف من الزمن وهو أستاذ لمادة اللغة العربية، وكيف كان يصر على تقييد تلامذته بالواجب وشحنهم بحب الوطن والتشبث بالأخلاق والعمل الدؤوب وعدم الإخلال بالواجب…، أفهم جيدا أن المغزى من المقاومة التي أبداها في حُلمه المزعوم لا تخرج عن هذا الإطار الذي جُبل عليه..، فما الأسنان والجذع والتمرغ إلا وسائل ذاتية يمكن أن نجملها ونلخصها في التشبث بالقيم والمبادئ والأخلاق ومحاربة كل الرذائل والموبقات التي تنخر مجتمعنا والوقوف سدا منيعا في وجه الإعلام المزيف والإشهار الذي يستغفل عقولنا ويستغل جيوبنا، والعودة إلى التراث والتقاليد والعادات والقيم…

لقد قاوم الكاتب ونجح، وهو لمن يعرفه إنسان يُفرِّق جيدا بين الموضة الحمقاء وبين الأناقة، بين التبضع العقلاني المدروس وبين ثقافة الاستهلاك الشرهة وسياسة الاقتراض والديْن، بين التراث الجميل والبدع المستحدثة، بين الأصالة في الأغنية العربية والتراثية وفي الموسيقى والرقص والمسرح.. وبين الابتذال والميوعة التي طالت الموسيقى والسينما والمسرح باسم الحداثة والتمدن… إنه بخلاصة المعنى يعرف جيدا خطورة الصورة (الصورة المتحركة والثابتة والشعرية.. وغيرها)، وأهميتها في تحريك عجلة الاقتصاد وفي تخريب الأخلاق وفي تجييش الناس وتغيير مواقفهم، ويعي جيدا مقولة مُجدد السيميولوجيا “رولان بارث” إذ يؤكد أن “الصورة أبلغ من ألف كلمة”.

هوامش:

1 -جميل حمداوي، سيميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة، ديوان العرب، 2007، بتصرف.

2 -عواد علي، معرفة الآخر – مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة – ، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، ص 73.

3- يرى “دي سوسير” أن اللسانيات جزء من السيميولوجيا في حين يرى “رولان بارث” العكس حيث يعتبر أن السيميولوجيا جزء من اللسانيات ويبرر ذلك بكون السيميولوجيا تعتمد في دراسة مواضيع الإشارات والعلامات والأزياء والطبخ… وغيرها من المواضيع غير اللغوية على عناصر اللسانيات اللغوية من قبيل (التقرير والإيحاء والدال والمدلول واللغة والكلام…)، وهذا نقاش آخر لا مجال للخوض فيه.

4- بالنسبة لشجرة النخلة فهي شجرة مقدسة في جميع الديانات السماوية، فاليهود يسمون بناتهم “تمارا” – من التمر- تيمنا وتبركا بالنخلة ورمزا لخصوبتها وقوامها المديد وخيرها الوفير، أما المسيح عيسى عليه السلام فكان يقال له “ذو النخلة” كونه ولد تحتها، وفي القرآن الكريم ورد ذكر النخلة في 20 آية وفي سور مختلفة، كما وردت في أحاديث نبوية شريفة كثيرة.

**كاتب وقاص مغربي من مدينة الناظور يعمل حاليا كمدير لثانوية الريف الاعدادية بالمدينة متخصص في القصة القصيرة جدا، صدرت له عدة أعمال ودراسات ونال العديد من الجوائز والشواهد التقديرية على أعمال نقدية وأدبية خصوصا في الشعر والقصة القصيرة.

*باحث في التاريخ والتراث والجماليات.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق