النموذج التنموي الجديد ومتطلبات تجديد النخب السياسية المحلية

29 أغسطس 2019آخر تحديث :
النموذج التنموي الجديد ومتطلبات تجديد النخب السياسية المحلية

اريفينو : د عماد ابركان

إن تأهيل التدبير العمومي الترابي بالمغرب والرفع من مستوى حكامة المدن المغربية يجد أسسه ومنطلقاته الأولى في صلب الدستور وفي الخطب الملكية باعتبارها مرجعية أساسية لكل إصلاح، وبهذا تضمن الدستور الجديد العديد من المقتضيات والأسس الدستورية التي من شأنها دعم حكامة المدن والتجمعات الحضرية. كما يعتبر دستور 2011 مناسبة جديدة لتحديد اختيارات مختلف الفاعلون في الحياة السياسية بالمغرب، حيث حكامة التدبير العمومي الترابي بالمغرب تنبني على تجديد النخب السياسية والارتقاء بمستواها التعليمي والمعرفي والأخلاقي والقيمي. فاستراتيجية النهوض بالتدبير العمومي الترابي وترسيخ حكامة المدن يجب أن تنتقل من هواجس وثوابت تجويد التأطير القانوني والتنظيمي إلى التخطيط العلمي والعقلاني للسير نحو تجديد النخب السياسية المحلية.
ولاشك أن مسألة تجديد النخب تعتبر مسألة محورية في مسار أي مجتمع على اعتبار أنها تمثل إرهاصا معنويا وماديا يترجم بشكل أو بآخر حركية المجتمع من جهة ومعيارا تأطيريا للحظة تواجدها من جهة أخرى؛ فالحديث عن النخبة يبقى مؤشرا قويا يترجم مدى حيوية المجتمع ومدى قابلتيه لبلورة نموذجا تنمويا جديدا لكونها مشتلا سياسيا يبلور منظومة من القيم ومشاريع الأفكار التي تطبع هوية ذلك المجتمع؛ ذلك أن النخبة تبقى في نهاية المطاف مصنعا لإنتاج أفكار ومشاريع المجتمع.
إن اشكالية وثنائية النخب السياسية وآفاق مواكبة مستجدات تدبير الشأن العام المحلي وضرورة تكريس النموذج التنموي الجديد، إشكالية محورية وجوهرية في المغرب. فقد كشفت التجربة والممارسة من منطلق مبدأي التدرج والتراكم أن جميع الإصلاحات والمحاولات الإصلاحية التي عرفها التدبير العمومي الترابي كيف ما كانت لم تصل إلى مبتغاها، بل منها من باء بالفشل نتيجة اعتلالات واختلالات وانحرافات النخب السياسية. وذلك نتيجة محددات ومعطيات وعوامل متعددة مركبة ومتفاعلة ومتداخلة، لا يمكن حوكمة وتجويد التدبير العمومي إلا بتفكيكها وبحل لغزها.

لقد جاء في خطاب العرش ل 30 يوليوز2004 “وإدراكا منا بأن أي إصلاح رهين بتأهيل الفاعلين والهيئات، فإنه ينبغي الانكباب على … تأهيل النخب للمشاركة الديمقراطية وخدمة الصالح العام، تكون صلة وصل قوية بين الدولة والمواطن …. لذلك ندعو الطبقة السياسية إلى تحمل مسؤولياتها…. في تدبير الشأن العام من خلال نخب متجاوبة مع عصرها… تجعل من الحكم القويم المحك الحقيقي لممارسة العمل السياسي بمفهومه النبيل” . فالمرحلة التاريخية التي تجتازها البلاد وطبيعة التحديات المطروحة عليها هي التي فرضت مثل هذا النقاش منذ بداية الألفية الثالثة.
حيث أصبحت إشكالية تعاقب الأجيال تطرح بحدة في جميع الميادين؛ خصوصا في الميدان السياسي. ومن ثم طرحت إشكالية تجديد النخب الإشكالية القديمة الجديدة المستجدة في المغرب. ولعل هذا ما أكدته المؤسسة الملكية نفسها كأعلى سلطة في البلاد، حيث جاء في الخطاب الملقى بمناسبة 20 غشت 2015 أنه “وإذا كان لكل مرحلة رجالها ونساؤها، فإن الثورة التي نحن مقبلون عليها لن تكون إلا بمنتخبين صادقين، همهم الأول هو خدمة بلدهم، والمواطنين الذين صوتوا عليهم” .
صحيح أن المقتضيات والقواعد القانونية تشكل قاعدة أساس جوهرية لتكريس الحكامة والديمقراطية في التدبير العمومي قصد معالجة إشكالية التنمية في أية دولة، إلا أن صياغة القوانين لا تعدو كونها نصف الصورة، أما النصف الثاني، والأكثر تحديًا، فيتمثل في التطبيق السليم للقواعد القانونية التي تمت صياغتها. فعندما لا يتم تطبيق النصوص القانونية على الوجه السليم، يخلق هذا التناقض فجوة التطبيق، أي تبعات سلبية على الحكامة والآفاق الديمقراطية والتنموية للوطن والمجتمع ككل. ومن هنا، وإذا كان عدم التطبيق السليم هو الذي يفشل القوانين ويجعل منها نصوصا فارغة المحتوى، مما يقوض مصداقية الدول عموما، فإن المغرب يعتبر من الدول التي تعاني هذا الإشكال بشكل واضح وبارز وذلك بفعل معطيات وعوامل متعددة أبرزها اعتلالات النخب السياسية. حيث ما إن يتم إصدار نص من النصوص القانونية -وكيفما كانت دقته وسلامة صياغته- حتى يصطدم مع الواقع الذي يأبى التأطير والمعالجة والانضباط للنص والمقتضى القانوني. والسبب الاساسي في ذلك كما هو معلوم ليس إلا الاختلالات التي تتسبب فيها النخب السياسية، إن على المستوى الوطني أو على المستوى المحلي.
هذا ولا شك أن دور النخبة السياسية في تحقيق نموذج تنموي جديد يتأثر بالعديد من العوامل الذاتية المتعلقة بالنخبة السياسية نفسها وطبيعتها التكوينية وعوامل البيئة الخارجية لها ولعل أبرزها ما يمكن صياغته كالتالي:
1. العامل المتعلق بدرجة النضوج السياسي لهذه النخبة باعتبارها نخبة ممسكة بزمام فعل التغيير السياسي داخل النظام المسؤول عن أي عملية تنموية ترابية أو وطنية (النظام السياسي)، إذ يتأثر دورها هنا بدرجة تماسك هذه النخبة أولاً، ووجود العناصر الكفؤة فيها ممن يمتلك مؤهلات القيادة والتعبئة والتغيير وحيازة إرادة التنمية، إضافةً إلى إمكانية توحيد الرؤى داخل مكونات هذه النخبة باتجاه صياغة موقف موحد للنشاط التنموي ؛
2. العامل المتعلق بإمكانات الدولة ذاتها وقدرتها على توفير مسـتلزمات التـــنمية السياسية للنخب، وأهمها مسألة التنشئة السياسية والتلاحم الاجتماعي الذي يعد شرطاً أساسياً لنجاح أي دور تنموي وبضمنه دور النخبة السياسية ؛
3. العامل المتعلق بالمرونة التي تبديها النخبة السياسية في التعامل مع أنماط النخب الأخرى الموجودة داخل المجتمع، كالنخب الثقافية والاقتصادية والدينية والعسكرية وغيرها…. من جهة، وقدرتها على مد جسور التواصل لتوحيد الفعل المشترك باتجاه إحداث أي تغيير على مستوى المجتمع والدولة من جهةٍ أخرى؛
عوامل أخرى تتعلق باستقلالية القرار الاقتصادي للدولة ودرجة خضوعها لتأثيرات خارجية قد تزيد أو تعيق أو توجه الدور التنموي للنخبة السياسية، وتؤثر عوامل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني في هذا الدور الذي تقوم به النخبة السياسية. وسعيها لتحقيق التنمية الترابية في بعدها السياسي.
إن الدور التنموي للنخبة السياسية، وفقاً لذلك، يتحدد بناءً على الأوضاع السائدة في المجتمع الذي توجد فيه هذه النخبة، ويكون محكوماً بخصوصيات المجتمع ومؤثراته، ومن ثم التقاليد السياسية السائدة فيه، التي إما أن تفعل هذا الدور في دعم عملية التنمية السياسية وفي إطارها الحكامة الحضرية، أو تحجمه في إطار محدود، وهذا يتوقف على مدى النضج السياسي للنخبة ذاتها ومن ثم جماهيرها، التي تدعم أو تعرقل هذا الدور، وإدراكها لما تواجهه عملية التنمية السياسية من تحديات وأزمات، قد تعرقل مسيرتها أو تصيبها بالشلل، يكمن دور النخبة هنا في تهيئة الأحوال العامة للدولة والجماعات الترابية من مختلف النواحي وبناء البيئة الصحية للتنمية السياسية، وتهيئة الأرضية المناسبة للشروع في هذه العملية، وتجاوز أية أزمات تعترض طريقها .
إن مكانة المسألة الأخلاقية في معرض البحث عن النموذج التنموي الجديد وأهميتها بالنسبة لإشكال التدبير العمومي للمدينة محورية وأساسية ولا ريب فيها. فكلما كان هناك سمو في الأخلاق والقيم لدى الموارد البشرية –وخاصة النخب السياسية- المسؤولة عن التدبير كلما كانت المشاكل أقل والممارسات التدبيرية أكثر جودة وفعالية ونجاعة. والعلاقة الجدلية القائمة بين تجديد النخب السياسية وتجويد التدبير العمومي للمدن إذا كانت تثير إشكاليات فكرية وفلسفية كبيرة، وتثير اهتماما في الأوساط السياسية والقانونية والاجتماعية للدول، فإن هذا الموضوع الذي نحن قيد معالجته ودراسته والبحث في إشكالاته المختلفة، قد أعاد إلى أذهاننا تلك الإشكاليات. ومن هنا وعلى هدي ونهج تلك الإشكاليات والأفكار يمكن التأكيد على أن السبب الأساسي لاختلال النموذج التنموي القديم هو اختلال وتصدع منظومة القيم والمبادئ الأخلاقية المنشودة في المجتمع بصفة عامة، ولدى معظم النخب السياسية بالخصوص. فالكل يدرك أن تدبير الشأن العام المحلي وتكريس التنمية المستدامة يجب أن يقوم على الأخلاق الحميدة أولاً، وبعدها تأتي كل العناصر والمكونات الأخرى حسب ضروراتها وأولوياتها، ولكن يصعب التحرك في الاتجاه السليم، الذي من شأنه أن يخرج التدبير العمومي للمدن –خاصة الكبرى- من التخلف والأزمة ومختلف الاختلالات البنيوية العميقة التي تعتريه منذ البدايات الأولى لبزوغ نظام اللامركزية الترابية في المغرب.
وخلاصة القول فقد تبين من خلال البحث في الموضوع أن منظومة التدبير العمومي للمدن، إذا كانت فاشلة عموما في احتواء ومعالجة أزمة التنمية الترابية الشاملة والمستدامة، وغير قادرة على النهوض بمستواها، وكانت أسباب ذلك كثيرة ومتنوعة تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها، فأن أبرزها -كما أصبحنا نؤمن بذلك جازمين بعد البحث في الموضوع- هي التصرفات والسلوكيات والذهنيات والعقليات غير الملائمة لدى النخب السياسية المحلية. ومن هنا كان لابد من تجديد النخب السياسية وبت روح جديدة في التدبير العمومي للمدينة المغربية.
هذا ولابد من الإشارة أن مسألة تجديد النخب، تعتبر إشكالية جوهرية ومحورية في مسار أي مجتمع، على اعتبار أنها تمثل إرهاصا معنويا وماديا يترجم بشكل أو بآخر حركية المجتمع من جهة ومعيارا تأطيريا للحظة تواجدها من جهة أخرى؛ فالحديث عن النخبة يبقى مؤشرا قويا يترجم مدى حيوية المجتمع ومدى قابلتيه لبلورة مشروع حداثي تنموي وإصلاحي للمجتمع لكونها مشتلا سياسيا يبلور منظومة من القيم ومشاريع الأفكار التي تطبع هوية ذلك المجتمع؛ ذلك أن النخبة تبقى في نهاية المطاف –من الناحية المبدئية- مصنعا لإنتاج أفكار ومشاريع المجتمع.
إن مفهوم النخب لم يعد ذلك المفهوم الكلاسيكي الذي اعتبر تبوء المكانة كنخب حالة فطرية ولا الهيمنة تنم على تلك القوة السيكولوجية، بل إن النخب الراهنة هي محصلة تراكم معطيات اقتصادية وثقافية وسوسيولوجية كالتنشئة بأنواعها والتكوين، وطبيعة الانظمة السياسية –إقصائي او إدماجي –اي أن النخب يمكن أن تبرز في كنف أنظمة ومجتمعات توفر إمكانية تجسيد الذات وهي كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، يمكن فقط الاشارة للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وضمان الحريات والحقوق الاساسية. إذا ما سادت هذه الشروط، من منظور نظرية سيسيولوجيا، تتحول مكونات تلك النخب إلى فاعلين في الحياة الاجتماعية، قادرين على التأثير في قرارات الحياة الوطنية للمجتمعات.
إن هذا التوصيف وفي شق كبير منه يحيل إلى واقع المجتمعات الديمقراطية، التي تجاوزت نخبها الصراع الداخلي وأضحت تتكامل وفق تقسيم اجتماعي للعمل في مجتمعات تنتظم فيها الحياة الاجتماعية وفق الكفاءة والحضور الامبريقي، وفي الكثير من الاوضاع باتت تتجاوز السلطة المركزية في جرأتها وطروحاتها، في تسير مجتمعاتها. وهي حالة النخب العارفة حتى فرضت ذاتها كمصادر ومرجعيات في كل نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما فيها العلاقات الدولية والجيو-استراتيجية.
وضمن هذا المنطلق يمكن مناقشة الإشكالية المطروحة هنا وتتعلق بالتغيرات التي تلحق بالنخب السياسية والاجتماعيـة. فافتراض وجود نخبة فاعلة في مجال من مجالات الحياة، وعلى الأخص المجال السياسي لا يتأسس بالضرورة على ثبات هذه النخبة أو حكمها الأبدي. فطالما أن المجتمع يتعرض لتغيرات، فإن تلك التغيرات لابد وأن تلحق بما هو سياسي؛ كما أن كل نطاق من نطاقات ممارسة القوة مهما كانت درجة انغلاقه – كما يوجد في الحكومات التي تتشكل النخب السياسية فيها من عائلة بعينها أو من شريحة أرستقراطية بعينها – لابد وأن يفسح المجال ولو بقدر يسير لدخول عناصر جديدة إلى دائرة التأثير السياسي ومن ثم إلى دائـرة النخبة السياسية.
وإذا ما ظل الانغلاق على حاله دون أي تغيير، فإن التاريخ لابد وأن ينتج نخباً جديدة قادرة على اختراق حالة الجمود والثبات في بناء النخبة. ولذلك فقد كان باريتو يقول “إن التاريخ هو مقبرة الإمبراطوريات”. وإذا كان تغير النخبة يبدو وكأنه أمر حتمي، فإن سعي النخبة نحو المحافظة على هويتها أيضا، وعلى تكوينها وعلى الاستمرار في السلطة يبدو وكأنه أمر حتمي أيضاً. فالدخول إلى دائرة النفوذ السياسي قد يصاحبه ميل نحو امتهان العمل السياسي واتخاذه وسيلة للعيش وأسلوب للحياة. ولذلك فقد أكد ماكس فيبر في مقاله الشهير بعنوان “السياسة كمهنة” إمكانية تحول العمل السياسي إلى مهنة تكون ممارستها بحكم المهارة والحذق والقدرة على الإدارة والممارسة الديموقراطية . ويحدث ذلك خاصة عندما يحقق “السياسي” قدراً من الاستقلال عن “الاقتصادي” و”الاجتماعى”، أي عندما تنفصل الممارسات الحزبية عن تكوينات الطبقة والمكانة، ويصبح الحذق المهني داخل الحزب هو السبيل إلى الدخول في دائرة النخبة السياسية.
ولعل هذا التناقض بين حتمية التغير السياسي مـن ناحية وحتمية الميـل النخبوي نحو المحافظة على السلطة من ناحية أخرى، هو الذي جعل من قضية تحول النخبة أو “تدوير النخبة” قضية محورية في التراث النظري. وهي قضية جوهرية ومحورية أيضا في منظومة التدبير العمومي للمدينة المغربية أيضا، فبعد كل الذي تعرفنا عنه وتوقفنا عليه بخصوص الموضوع فيما سبق يمكن القول بنوع من اليقين مع التأكيد الدوغمائي والوثوقي أن المغرب إذا أراد النهوض بالتدبير العمومي الترابي وتكريس النموذج التنموي الجديد؛ ما عليه إلا أن يفتح باب تجديد النخب السياسية وتغير الفاعل السياسي المركزي والمحلي. فقد كشفت التجربة والممارسة السابقة بالمغرب أن الإصلاح القانوني والتنظيمي والنظامي لا يكفي ولا يغني من الفساد، وبالتالي فلا مفر من مسألة تجديد النخب السياسية رغم كوننا مقتنعين أن ذلك ليس سهلا، ولكنه في المقابل ليس مستحيلا ويبقى هو الحل الوحيد والأوحد إذا أرادها المغرب جهوية متقدمة وحكامة ترابية حقيقية تسعى نحو تحقيق حكامة المدن وترسيخ النموذج التنموي الجديد أو ما يسمى بالتنمية المستدامة والمنشودة التي يستفيد منها الجميع.
تمثل سنة 2011 وبعد الربيع العربي نقطة تحول محورية وجوهرية في تاريخ المغرب الحديث –على الأقل من الناحية المبدئية- وليس ذلك بما أقدمت عليه الدولة من تغيرات وإصلاحات، كما يروج ذلك الخطاب الرسمي، بل نتيجة التحول الإيجابي الذي عرفه العديد من فئات ومكونات المواطن المغربي في وعيه وثقافته إزاء الشأن العام، حيث أصبح أكثر جرأة وأكثر فهما للإشكال التنموي الذي عانه ردحا من الزمن. حيث تأكد بما لا يدع مجالا للشك والريبة أن السبب الأول والأخير في الانتكاس التنموي بالمغرب هو اعتلالا النخب وغياب الإرادة السياسية الحقيقية في الإصلاح عند معظم مكوناتها. إلا أنه في المقابل وللأسف الشديد بسبب الضعف والتماهي مع السلطة والأخطاء التي ارتكبها من تولوا إدارة شؤون البلاد (الحكومة بالدرجة الأولى) في مرحلة ما بعد دستور 2011، فالمغرب يعرف في الفترة الراهنة حالة من الارتباك والضبابية والقهقرة إلى الوراء –مقارنة مع مناخ 2011- ولا يزال يعاني منها حتى الآن.
وفى ظل هذا المناخ بدأت ملامح خلخلة حصون وقلاع النخبة السياسية المغربية، والرغبة من طرف المواطن في التغيير، حيث بدأت الحاجة إلى نخب جديدة، شبابية وحزبية تلوح في الأفق . ولا شك أن هذه العملية سوف تستغرق على الأرجح فترة زمنية ليست بالقصيرة. كما أنها تتوقف على جملة من الشروط والمعطيات، منها: التأسيس لحياة سياسية طبيعية في البلاد تقوم على أسس ديمقراطية سليمة وليست مغشوشة أو مزيفة. وقيام التيارات الفكرية والسياسية المختلفة بمراجعات جادة لأفكارها وبرامجها، فجمود النخبة السياسية لعقود أدى إلى انعدام الخيال السياسي، ومن ثم جمود الأفكار والبرامج. وبالإضافة إلى المراجعات الفكرية والسياسية، فإن هناك حاجة ملحة لتجديد النخبة من خلال ضخ دماء جديدة في شرايينها، وذلك لن يكون إلا بإفساح مجال أوسع للشباب والقوى الصاعدة، فضلاً عن تجسير الفجوة بين النخبة والجماهير إن على مستوى الخطاب أو على مستوى الممارسة.
ومن هنا، لابد أن نؤكد في النهاية أن الإصلاح أو التغيير الذي لا يتأسس على قاعدة شعبية الممثل أساسا في النخب السياسية ويعكس رغباتها وأهدافها، يظل في آخر المطاف قاصرا وغير ذي جدوى. وبنفس القدر والعزم نؤكد أن الإصلاح الذي لا يستهدف جذور المرض لاستئصالها لا يعتبر إصلاحا. ونقصد هنا أن المغرب إذا أراد تدبيرا عموميا ترابيا بكثير من الجودة والفعالية والحكامة، أو بالأحرى تحقيق ما يسمى بحكامة المدن الذي هو مدخل أساسي للنموذج التنموي الجديد لابد من استهداف النخب السياسية والإدارية المتحكمة والفاعلة التي تملك سلطة اتخاذ القرارات، وتستأثر بالمراكز الحيوية، بالتخليق والتأديب والتوقيف والعزل والتغيير حتى تستقيم الأمور وتعود إلى نصابها. وفي نفس السياق، وانطلاقا من قاعدة أن الواقع المحلي في المغرب، لازال حبيس بعض المسلمات والممارسات التقليدية تجاه النخب المحلية، من قبيل الولاء للمنتخبين والمسؤولين المقربين بصرف النظر عن كفاءاتهم ومؤهلاتهم. وهو أمر يتعارض مع التوجهات الحديثة لربط المسؤولية بالمحاسبة، التي تفرضها المتغيرات المحلية والوطنية والدولية، والتي تدفع في اتجاه تحمل كل طرف لمسؤولياته الكاملة، وتتطلب إعطاء المواطنين دورا أوسع في انتخاب ومراقبة منتخبيهم.
وعموما، فإن هذا الأمر يقتضي توعية المواطنين من خلال التربية والتكوين كالتالي:
– توجيه النظام التربوي العام للمجتمع لتعزيز شعور الناشئة بالمسؤولية وبحقوق المواطنة لتدعيم الوعي لديهم بما لهم وما عليهم؛
– إدراج التربية على تخليق الحياة العامة ضمن المناهج التعليمية وتنظيم حملات تحسيسية في هذا المجال، على المستوى المركزي والمحلي؛
– إدماج برامج وقيم محاربة الارتشاء والاختلاس وخيانة الأمانة في البرامج التعليمية والتربوية، وفي مناهج التكوين بما يجعل الشباب يتربى على مبادئ التخليق ومحاربة الفساد، وتعزيز دور المساجد أكثر فأكثر في هذا المجال؛
– تمكين المشهد الإعلامي المحلي من ضمانات قانونية توفر إمكانيات الإخبار، والتنديد بملفات الفساد الموثقة بإثباتات موضوعية .وكسب انخراط الفعاليات الإعلامية في الكشف عن بؤر الفساد بالجماعات الترابية، وتيسير مسطرة التبليغ والمتابعة؛
وختام القول بالنسبة للتوصيات فإننا نرى، أو بالأحرى نعتقد جازمين أن النهوض بالتدبير العمومي المحلي، وتحقيق مبتغى حكامة المدن الذي هو النموذج التنموي الجديد تقتضي وضع استراتيجية متكاملة بجوانبها التشريعية والتنظيمية، ومتطلباتها المادية والبشرية والوسائل والأدوات اللوجستية وغيرها. مع التركيز وبشكل أساسي على النهوض بالعنصر البشري –خاصة النخب السياسية- تربية وتكوينا وتخليقا. بحيث يستهدف ذلك تطوير فلسفة الرقابة والمحاسبة المحلية، والسير بها في اتجاه تعزيز مبدأ “الرقابة الملاءمة للعقلية المغربية”، من خلال أنسنة مبادئها وتقنياتها وأهدافها. وحاصل الكلام أن هذه الإصلاحات المجمع على معظمها في المغرب، هي إصلاحات ذات طبيعة استعجالية. وحالة الاستعجال فيها قصوى لا تستدعي التأجيل والتأخير أو حتى التمهل، لأنها من السهل الممتنع، وقد تستغرق وقتا وجهدا ونفسا طويلا.

بقلم الدكتور عماد أبركان، باحث في العلوم القانونية والإدارية والسياسية

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق