+روبورتاج فيديو: عشر سنوات على زلزال الحسيمة… جراح لم تندمل

27 فبراير 2014آخر تحديث :
+روبورتاج فيديو: عشر سنوات على زلزال الحسيمة… جراح لم تندمل

لم نكن بحاجة إلى الخوض بالسكاكين في لحمة ذكرياتهم، لتنزف ما حدث في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات، بل كانت دقائق حياتهم ترغمهم على الهجوع في 24 فبراير 2004. ولم يكونوا بحاجة إلى مرور عقد من الزمن ليستعيدوا تفاصيل هذا اليوم المشؤوم، بل كانت أيامهم راشحة بالذكرى، بالغبار والدم والدموع والعويل. طريقهم إلى النسيان مازالت مزدحمة بالجثث والأنقاض والكوابيس، حتى بعد مرور عشر سنين، أكلت من وجوه بعضهم علامات صحة وعافية الشباب، وحرمت بعضهم الآخر من عيش طفولة عادية قبل أن ينزلقوا إلى سن التفتح والازدهار في روضة الشباب. هم أطفال وشباب ومسنون التقتهم “الصباح” قبل عشر سنين، وعاشت معهم الضربات الارتدادية لزلزال خطف 681 روحا، وأصاب الآلاف بجروح وأعطاب جسدية ونفسية، لكنها لم تعش معهم الضربات الارتدادية لزلازل نفسية مازالت تهز عرش طمأنينتهم إلى اليوم. محمد أعبود، رضوان الموساوي، وعالية ….وحميد….، بعض من الوجوه التي التقطت صورها عدسات “الصباح”، قبل عشر سنين كما التقطت تفاصيل من يومياتهم آنذاك، وعادت لزيارتهم بعد عقد من الزمن لمحاولة القبض على جزء من تفاصيل حياة جديدة قديمة.
الحسين:أين جواب الرسالة التي حملتكم قبل 10 سنوات؟
يمتنع الحسين الموساوي بداية عن استقبال زوار لم تنفع الرسائل التي حملهم إياها قبل عشر سنوات في إنصافه، وعادوا مرة أخرى ليجدوا أن الرجل المكفوف مازال يجلس على الكرسي نفسه أمام باب بيت من آجر أحمر، منتظرا ردا من دوائر القرار التي انشغلت عن رسائله بشجون المركز. يصرخ الحسين “ماذا ربحت من وراء حديثي إليكم سابقا؟ لم أستفد من إعادة الإعمار كما الآخرين، ولولا المحسنين لما بنيت هذه الغرف من الآجر العاري لإيواء زوجتي وأطفالي”. لا يكف الحسين عن الصراخ، احتجاجا، وعتابا، وكأنه بذلك يتساءل عن المسؤول عن وصف وجرعات مفرطة من الألم والفاقة في حياته. تقوده عصاه إلى داخل البيت، وهو بذلك يدعو زواره إلى اللحاق به، يشير المكفوف بفطنته إلى الغرف والمطبخ، دون أن يخطئها، “هنا أعيش مع زوجتي وأولادي، بعد أن خسرت بيتي الأول، رفضوا أن يعوضوني كما الباقين، بمبرر أن والدي استفاد، ولكني كنت أعيش مستقلا عنه؟ لماذا لم ينصفوني؟”. وعلى غرار الكثيرين يعيش الحسين وأسرته مما يجود به المهاجرون على المحتاجين، ومن مال المحسنين، “هم وحدهم ينفقون علينا، ويساعدني أبناء الدوار في الزراعة، ولو أن مردودها قليل، كما يقتنون لزوجتي الدواء، لأنها تعاني الروماتيزم وتحتاج أدوية غالية، لذلك هي اليوم في المستشفى، وهذه مسألة أخرى لأن التنقل إلى الحسيمة يكلفنا المال أيضا”.
إن كان الحسين قد اختار نسيان جراح فقدان بعض الأقارب في زلزال 2004، فإنه مصر على عدم نسيان حقه في الاستفادة، لذلك يصرخ من جديد “أسامحهم إن كانوا نسوني أو إن كان هناك مسؤول أسقطني من لائحة المستفيدين، لكني لن أسامحهم إن استمروا في تجاهل ملفي، عليهم أن يعينوني لأني مكفوف أولا، وليس على الدولة أن تعول دائما على المهاجرين لإعالتي وعلى المحسنين، أنا مواطن ومعاق قبل أن أكون ضحية من ضحايا الزلزال”. أكبر أبناء الحسين يعيشون في الخيرية، “انتقلوا للعيش هناك بعد أن اجتازوا مرحلة الابتدائي، أحمد الله أني لم أخسر إلا البيت، وعاش أبنائي، وزوجتي، هذا واحد من الأسباب التي تجعلني أنسى، على خلاف بعض جيراني الذين خسروا أولادهم وزوجاتهم وبيوتهم وكل شيء”. العواطف المبتسمة التي لا ينجح الحسين في إخفائها وهي ترشح من وجهه، وهو يتوجه بالشكر والحمد للرحمان الرحيم، سرعان ما تنقلب إلى فورة جديدة، “إذا لم أكن أكثر الناس حاجة إلى المساعدة لأضمن عيشا كريما لأبنائي، فمن أحق بذلك؟ تركوني أعيش في خيمة، ولم أحظ بالستر إلا بفضل المحسنين. حسبي الله ونعم الوكيل”.
يودع الحسين زواره بصوت أخف، وهو يقرئ دوائر القرار السلام وطلبا بفتح ملفه من جديد.
محمد: مازلت أعيش 24 فبراير 2004
قد تخدعك ابتسامة محمد أعبود، وهو مقبل إليك بقامة وهيأة بدنية قوية تشي بأن الشاب تعافى تماما من جراح فقدان والديه وأشقائه الثلاثة في زلزال الحسيمة قبل عشر سنين من هذا اليوم. وقد تخدعك أناقته فتعتقد أن الشاب البالغ اليوم 18 سنة، والمصنف في خانة مكفولي الأمة يعيش حياة الرخاء من المبلغ الذي يصرف له كل ثلاثة أشهر، وأن هذه الصفة تفتح أمامه باب العامل والوالي، لكن بعد حديث قصير تكتشف أن الشاب في حاجة ماسة إلى عناق حار في أحضان الأمة التي تكفله، ليسكب عليها دموع عشر سنوات حبسها في الصدر وتراكمت وتكلست سنة بعد أخرى في صدر محمد أعبود. “أعيش كل يوم في هذه الذكرى. لم أكن يوما بحاجة إلى يومية لأسطر تحت اليوم 24 من كل فبراير خطا حتى يذكرني، بل أتذكر كل يوم”. يقول محمد دون أن يغالب دموعه، قبل أن يحثه سؤال آخر على فعل ذلك “الدراسة؟ نعم أجد صعوبات”، وتنجح المحاولة في إعادة البركان إلى مكانه، في انتظار أن تتدخل الأمة لتفجيره وإعادة الحياة الطبيعية إلى شاب مازال يعيش في أحزان الطفل الذي خلفه أبواه وراءهما في سن الثامنة. ومازالت الحياة تصب في أيامه المرارة، “تمنيت لو مت معهم، أشعر أنني وحيد”، وتعود الدموع من جديد، وكأن محمد لم يتكلم عن قصته لأحد منذ اليوم الذي انفضت من حوله الجمعيات المنظمات الإنسانية، التي تكلفت بعد 15 يوما فقط من الفاجعة بنقله إلى باريس، للتنزه في شوارعها القديمة، وملاهيها الترفيهية بنية حسنة لجعله ينسى، “لم أتحدث يوما إلى أي طبيب نفساني، أشعر أني بحاجة إلى ذلك”. يقول محمد بصوت مخنوق، ومحاولته الحثيثة في التفجر دمعا تزداد إلحاحا. لكن سؤالا آخر عن المكان الذي يعيش فيه الآن بعد أن شرده الزلزال، “أعيش متنقلا من الخيرية إلى بيت عمتي في الحسيمة ثم أقضي العطل بما فيها الأسبوعية في بيت جدي، لكني رغبت لو حظيت بمساعدة لإعادة بناء بيتنا بعد أن بلغت الآن سن الثامنة عشرة”. ما يجعل محمد يتنقل من مكان إلى آخر هو شعوره الدائم بأنه عالة على الآخرين، “أفضل أن أتناول وجباتي في الخيرية حتى لا أثقل على عمتي التي تعتني بي جيدا، لكن يراودني دائما شعور أنني أثقل عليها، خاصة أن بيت جدي في البادية وأنا بحاجة إلى متابعة دراستي في المدينة”. حين لا يطلب محمد مساعدته لبناء بيت والديه من جديد، فإنه يتمنى لو عادت جمعية حقوقية أجنبية إلى البحث عنه، بعد أن كانت اقترحت عليه بعد أشهر قليلة من الفاجعة الانتقال للعيش في بلجيكا، “لو عادوا الآن سأذهب معهم”. وحين يتخلى عن هذه المطالب فإنه يتمنى لو يتلقى ردا على ملف وضعه في العمالة للمطالبة بالاستفادة من مأذونية أجرة.
جد محمد هو الوصي عليه، وهو الذي يصرف حوالي 3000 درهم يتلقاها كل ثلاثة أشهر بصفته مكفولا للأمة، “المبلغ غير كاف، لمصاريفي ولتمدرسي”. لم تعثر حياة محمد النفسية فحسب، بل أيضا يواجه صعوبات في الدراسة، لذلك يحاول جاهدا الانتقال من القسم التاسع بالإعدادية، إلى الثانوية، “رسبت ثلاث مرات، ظروفي النفسية لا تساعدني على التحصيل الجيد، لو تلقيت علاجا نفسيا لكنت أفضل”، وهنا يجدد محمد اعبود طلبه بالاستفادة من علاج نفسي ليتسنى له الخروج من سجن اليوم 24 فبراير 2004، الذي مازال يعيش فيه حتى بعد مرور عشر سنوات، “لا أذكر الزلزال، ولا وقوع البيت فوق رؤوسنا، لأني لم أعرف يوما كيف وقع ذلك”. اللحظة التي يعيش فيها محمد بعد ساعات من الزلزال، هي استيقاظه وسط ركام حجر ورأسه مجروح، وسط عويل الناجين، “كان جدي وجدتي وعماتي يبكون، ويحاولون تخليصنا، نقلوا جثث أبي وأمي وأشقائي الصغار عبد الكريم و….باختصار مازلت عالقا في هذا اليوم، ومازلت أراني محجوزا داخل ركام الحجر”.
عالية:أرى القطط والنساء وحين ألمسهم يختفون
بعض الضحايا تحولوا إلى مجرد رقم في لوائح الاستفادة من الإسمنت والحديد
إن كانت مساعدات الجيران بتازغين وأقاربهم من المهاجرين بالخارج تتكفل بمصاريف المسنة عالية، المرأة التي فقدت كل عائلتها في زلزال الحسيمة، فإن عالية وبعد العودة إلى بيتها بعد عشر سنوات تستقبل الزوار بذاكرة ضعيفة، قبل أن تشاهد صورها القديمة وهي بعد بصحة أفضل، ويدها تلوح احتجاجا، “نعم أتذكر الآن، مات زوجي المسكين، لكان فرح بهذه الزيارة”، تجلس عالية على حجر كبير مؤكدة أن صحتها لم تسعفها للوقوف طويلا.
بعد أشهر من الزلزال الذي ورث لعالية الوحدة، بعد وفاة كل عائلتها، مات الزوج أيضا، ولم ينعم ببيته الجديد، بعد أن ظل يتردد على مسؤولي السلطة من أجل إدراجه في قائمة المستفيدين من مواد بناء بقيمة خمسة عشر ألف درهم، ومثلها نقدا، صرفتها الدولة لأغلب ضحايا زلزال الحسيمة. “هذه هي أنقاض البيت القديم، لم يجرفوها، بعد أن مات زوجي لا يوجد من سيطلب منهم ذلك” تقول عالية التي لا تتحدث إلا الريفية، قبل أن تضيف “أعيش من مساعدات الحاج فلان والحاج فلان وعائلاتهم بالخارج، فأشقائي ماتوا كلهم ولم يعد لي من معيل”.
لم تخلف الفاجعة الوحدة والفقر لعالية التي يشهد لها الدوار بالطيبة، بل أيضا تعاني المرأة أيضا كوابيس يومية تطبق على أنفاسها، “تزورني نساء وقطط، وحين أحاول لمسهم يختفون. كل ليلة أراهم، تأتي القطط الصغيرة أولا، تنط بالقرب مني وتلاعب بعضها، ثم تظهر امرأة هناك، في البداية كنت أنهض من فراشي لألمسهم، لكنهم يختفون” تبكي عالية دون أن تغادر وجهها البض ابتسامة خجولة، إذ رغم السنوات التي عاشتها عالية مازالت الريفية تحتفظ بمسحة خجل تغلب على نساء المنطقة شابات ومسنات.
ما تحكيه عالية عن حياة الوحدة والمخاطر التي تواجهها يوميا، تلخص أن بعض الضحايا تحولوا إلى مجرد رقم في لوائح الضحايا وفي برامج الاستفادة من الإسمنت والآجور والحديد، “أخاف كثيرا، البيت ليس مبنيا بشكل جيد وأجدني عرضة للصوص، لأني ذات مرة خرجت من الدوار، وغادرت لزيارة الطبيب، وحين عدت وجدت أن قفل البيت مكسور، بحثوا عن المال، بعثروا أغراضي لم يجدوا شيئا، ليس لدي مال” تضحك عالية ببراءة الطفلات، ثم تقول “هذا كل ما أحتفظ به لشراء الصابون”، هي تشهر 20 درهما، ثم تعود للقول بما يشبه الخوف “ماذا لو لم يكن هناك الحاج فلان والحاج…؟ ماذا لو لم يهتموا بأكلي وملبسي؟ هم وحدهم يعيلونني”. هذه هي الحياة التي عاشتها عالية خلال عشر سنوات التي مرت على غضب الطبيعة، وما خلفه ذلك من تفقير، إذ لم تقتصر الخسائر على البشر والبنايات فقط، بل خسر الضحايا أغنامهم وأبقارهم وبغالهم ومدخراتهم.
ضحى زين الدين / الصباح

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق