أقوى لحظات عناد الملوك المغاربة ورجالات المخزن

21 أبريل 2019آخر تحديث :
أقوى لحظات عناد الملوك المغاربة ورجالات المخزن

متابعة

الأسرة العلوية كما هو معروف قادمة من الجنوب المغربي. إنهم “فيلالة”، ويقال إن مزاج الفيلاليين متقلب ورأسهم صلب وصفتهم العناد وغضبهم قريب، وكل هذا يمكن أن نطلق عليه بإنصاف نعت “أنفة السلاطين والملوك المغاربة”. وفي هذا الملف نجمع ما تيسر من مواقف وحوادث انفجرت فيها هذه الأنفة في الأمس القريب كما في الزمن البعيد.

الغنان هو العناد.. وفي القاموس المحيط العنيد هو المكابر، الصعب المراس، الثابت على رأيه حتى ولو اكتشف بطلانه ومجانبته للصواب.. و«لو طارت معزة»، والعنيد من الإبل والبعير من تغلب على الزمام والرسن وتأبى الانقياد.. لكن موضوع حديثنا هنا هو نوع من كبرياء سيكولوجي لدى الملوك والسلاطين وكبار قواد المخزن الذين حتى في لحظات ضعفهم، كانوا يتحدون خصومهم بكبرياء إمبراطوري.

هكذا هم أغلب السلاطين والملوك الذين حكموا المغرب، حتى في لحظات ضعفهم، وعدم وجود الحق إلى جانبهم أحيانا، وحتى وهم في مواضع لا يُحسدون عليها، لا يستسلمون، ولا يصغرون، ويبدون في موقع من يستعد لأن يخسر كل شيء فقط ليضمن ألا يهان، ثمة أنفة ما، نوع من الكبرياء يدفع الملوك وكبار القواد من رجالات المخزن للتعامل بنوع من «الغنان» مع ممثلي دول كبرى مثل فرنسا، انجلترا، ألمانيا… بل حتى في الوقائع والأحداث التي تجتاح البلد، هناك نوع من «غنان» غير مبرر للملوك وكبار رجالات المخزن في ما يحسون أنه محاولة للي ذراعهم، في عز حصار الإقامة العامة للقصر الملكي، وفي لحظات الضعف الحقيقية للسلطان أمام أكبر قوة استعمارية، كان محمد الخامس يهدد بالعودة إلى «الزبل»، كان ينطق الجيم زايا، وفي عز محاصرة العائلة الملكية حمل مولاي الحسن مسدسا وأراد تصفية المقيم العام لولا أن اكتشفه بعض الوطنيين ومستشارو محمد الخامس، فنزعوا منه المسدس، إلامَ يعود ذلك؟

البعض يرجعه إلى أمجاد الإمبراطورية الشريفة بشساعة مجال نفوذها وبقوتها العسكرية وبطولاتها الخالدة، من هذا الغنان، ما ذكره الملك محمد السادس في قمة الخليج حين قال: «إن الوضع خطير، خاصة في ظل الخلط الفاضح في المواقف، وازدواجية الخطاب بين التعبير عن الصداقة والتحالف، ومحاولات الطعن من الخلف.. فماذا يريدون منا؟

إننا أمام مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي.. فالأمر واضح، ولا يحتاج إلى تحليل. إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا، التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية».

الخطاب واضح، إنه موجه لأكبر دولة في العالم، أمريكا.. ماذا أعددنا لها من قوة؟

نفس الغنان كان يتلبس بجسد الحسن الثاني في أكثر من موقع، حين كان في إسبانيا يذكر الصحافي الإسباني سامبريرو، غداة لقاء الدكتاتور فرانكو جاءت طائرة هليكوبتر رئاسية لتقوده إلى القصر، رفض وطلب الذهاب في سيارة رولس رويس ، ولم يتزحزح عن موقفه، حتى إن اللقاء تأخر بساعات لأن الإسبان لم يجدوا السيارة التي طلبها الملك الراحل. شيء مشابه حدث لحظة استعداد المغرب لاستضافة المؤتمر الدولي للفيدارلية الدولية لحقوق الإنسان، في أواخر التسعينيات، كان الحقوقي الجنوب إفريقي دوسيتو يجلس إلى جانب إدريس بن زكري عن المنتدى المغربي لحقوق الإنسان بفندق هيلتون، التقطت تسجيلات المخابرات المغربية أن دوسيتو وصم الحسن الثاني بالدكتاتور، فغضب الحسن الثاني وألغى احتضان مؤتمر المنظمة الحقوقية التي كانت ستجلب للمغرب سمعة دولية في مجال حقوق الإنسان، لكن غنان الملك الراحل جعل المنظمين في آخر لحظة ينقلون المؤتمر إلى إسبانيا.

«الأيام» تضعكم في قلب مواقف طريفة لأنفة السلاطين وغنان الملوك وكبار خدام الدولة الشريفة.

الحسن الثاني بعد نجاته من انقلاب الطائرة:

بعد تعرض طائرة البوينغ الملكية للقصف من طرف الانقلابيين في غشت 1972، عقد الحسن الثاني ندوة صحافية، وصرح بانتشاء المنتصرين: «أنا ملك اليوم أكثر بقليل من البارحة».

وبعد أيام انفتح الملك الراحل على المعارضة، ودعا زعماءها إلى لقاء بالقصر الملكي، فاستقبل عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي وعلي يعتة، واقترح على كل حزب أن يمده باقتراحاته للخروج بالبلد من الأزمة الخانقة، يؤكد أحد رجالات القصر لـ «الأيام»: «زعماء المعارضة للأسف لم يلتقطوا إشارة الحسن الثاني الذي كان يعرض عليهم المشاركة في الحكومة، والعمل إلى جانبه، وبدأت صحفهم تبرز أن ما عاشه المغرب هو نتيجة حتمية، تبرز صواب تحليلاتهم وجدوى مطالبهم بالديمقراطية»، وهذا ـ يضيف ذات المصدر الذي اشتغل إلى جانب الحسن الثاني لـ «الأيام» ـ يمس بأنفة الملك الراحل الذي كان عنيدا ولا يحب أن تملى عليه الشروط، «إنه فيلالي» وفوق هذا رأى الموت بعينيه، ونجا منه مرتين في عام واحد، فما الذي سيفزعه».

اعتبرت المعارضة أن الحسن الثاني يعيش ما يشبه عودة الوعي بعد محاولة اغتياله عام 1972، واتفقت تحليلاتهم على ضرورة الضغط على النظام لنيل مكاسب أكبر، وجاءت مذكرات الأحزاب السياسية مليئة بالشروط حول الدستور، والانتخابات النزيهة ومنح الحكومة اختصاصات أكبر وتقوية سلطة الوزير الأول…

مما اعتبره الحسن إملاءات، فدعا كبارات جنرالات الجيش للاجتماع بقصره، وأعلن اختياره من خلال كلمة قاسية في حق زعماء المعارضة، فقد تحدث خلال هذا الاجتماع باللغة الفرنسية وقال لكبار ضباط وجنرالات الجيش: «يتحدثون عن أني أمر بصدمة نفسية، وأنا سأريهم صدمة كهربائية»، واستهزأ من زعماء الحركة الوطنية في هذا الخطاب، حيث وصف علال الفاسي بفقيه القرويين الذي لا يفهم شيئا في السياسة، وعبد الرحيم بوعبيد الذي لا ينتعش سوى في الأزمات، وعبد الله إبراهيم الرجل الذي يتكلم كثيرا دون أن نفهم ماذا أراد أن يقول بالضبط، إذا كان أصلا يقول شيئا ذا بال، وعلي يعتة الذي لا يميز الفرق بين الساعة في موسكو والساعة في الرباط».

رفض الحسن الثاني إبعاد مستشاره رضى اكديرة وجعل من البصري مؤسسة دستورية

في بداية الستينيات طلب علال الفاسي من الملك الحسن الثاني إبعاد أحمد رضى اكديرة الذي لم يكن يوما الود لأحزاب الحركة الوطنية التي كانت تعتبره رمزا للفساد، فكان جواب الملك كما حكاه الزعيم الاستقلالي لأعضاء اللجنة التنفيذية للحزب: «ليس هناك شخص لا يمكن الاستغناء عنه، ولكن الملك لا يشترط عليه، وأنا حر في اختيار مساعدي، وسأزداد تمسكا بالشخص المطلوب إبعاده».

وبالفعل تحول اكديرة إلى الرجل رقم واحد في النظام السياسي، خاصة في العقدين الأخيرين من حياة الملك الراحل، أكثر من هذا أصبح أحمد رضى اكديرة هو الذي يتفاوض مع أحزاب المعارضة باسم الحسن الثاني، وذلك في ما يشبه العناد، وهو ما سيتكرر عام 1994، وتشاء الصدف أن يتعلق الأمر بالأمين العام لحزب الاستقلال، الراحل امحمد بوستة، الذي كان يتحاور هو ومحمد اليازغي مع أحمد رضى اكديرة لتشكيل حكومة برئاسة حزب الاستقلال، لكن بوستة تشبث بإبعاد إدريس البصري الذي قيل للمعارضة جربوه وإذا لم ينجح التعايش فإن الملك سيزيله، وأمام تشبث الأمين العام لحزب الاستقلال، فقد أصدر الديوان الملكي يوم 11 يناير 1995 بلاغا يؤكد فيه حرص الحسن الثاني على حدوث التناوب، وعمل على ترقية إدريس البصري إلى منصب وزير دولة في الداخلية، واعتبره البلاغ مؤسسة دستورية..

رجـال الأمن يطـردون حقوقيـا فرنسيا كبيـرا من فندق شالـة إلى باريـس

عام 1981، بعد إضراب 20 يونيو، واعتقال الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي الراحل عبد الرحيم بوعبيد صحبة محمد اليازغي ومحمد منصور ومحمد الحبابي، ونقلهم إلى سجن ميسور، قام عبد الرحمان اليوسفي، المسؤول عن إدارة الحزب، صحبة الحبيب الشرقاوي في هذه المرحلة، بالتحرك على واجهة الاشتراكيين الفرنسيين لحشد التأييد ضد اعتقال أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، فقرر «سنغنيتي»، المناضل الحقوقي الفرنسي، زيارة المغرب والالتقاء بقادة الاتحاد لدعمه في محنته، رغم اتصاله بقياديين بارزين في الاتحاد الاشتراكي، فإن الحبيب الشرقاوي وجد نفسه وحيدا، وكان العربي عجول وعبد الواحد الراضي وحدهما من استجابا لدعوته من أجل استقبال الضيف الكبير بالمطار وإيصال «سنغنيتي» إلى فندق شالة حيث قضى ليلته، واتفقا على تناول الفطور بشكل جماعي اليوم الموالي، لكن ماذا حدث؟

مكالمة هاتفية واحدة التقطت – تقول مصادر جد مطلعة لـ«الأيام» – لسنغينتي مع أحد القياديين الاتحاديين ذكر فيها الملك الراحل بسوء، فيما أكدت مصادر أخرى أن الحوار الذي دار بين الحبيب الشرقاوي والناشط الفرنسي هي التي أغضبت الملك، والدليل اعتقال الحبيب الشرقاوي والعربي عجول واستنطاقهما، والأمر بإعادة الحقوقي في أول طائرة فرنسية، وكذلك كان. «عناد» الحسن الثاني دفع رجال «الديستي» وكبار عناصر الأمن للتوجه إلى فندق شالة في الرابعة صباحا، حيث أيقظوا «سنغنيتي» من نومه، وحملوه إلى المطار، حيث أرجع في أول طائرة متجهة إلى باريس.

الملك يعيد معمر القذافي إلى طائرته ويتركه محتجزا بالمطار لساعات

في لقاء خاص بين الفقيه البصري والسفير المغربي بمصر محمد التازي، وبعد أن أخذ الفقيه يملي شروطه لكي يعود إلى المغرب، أبرز صاحب «مذكرات سفير» أن الحسن الثاني ليس بالرجل الذي تملى عليه الشروط، وبسط أمامه وقائع تبرز أنفة الملك الراحل وعدم قبوله بمن يملي عليه ماذا سيفعل، ضمنها ما حدث بمناسبة انعقاد القمة العربية بالدار البيضاء عام 1983 مع العقيد معمر القذافي.

فقد نزلت طائرة الرئيس الليبي في مطار محمد الخامس، فتقدم الحسن الثاني نحو سلم الطائرة ليستقبل العقيد.. وكما تقتضي ذلك مراسيم البروتوكول، صعد مدير التشريفات والأوسمة الملكية لكي يصحب معمر القذافي أثناء نزوله من الطائرة ، وإذا به يغادر الطائرة الليبية لوحده، حيث أبلغ الملك الراحل أن العقيد لا يرى ضرورة للمرور أمام الفرقة العسكرية لاستعراضها وتحية العلم.

لم يكد الجنرال مولاي حفيظ يتم كلامه حتى أدار الحسن الثاني ظهره للطائرة الليبية وطلب من مدير التشريفات الملكية أن يطلب من العقيد أن يعود بطائرته إلى بلاده، لأن العلم المغربي الذي أُخرج من غلافه لا يعود إليه إلا بعد أن يحني الضيف رأسه تحية واحتراما للشعب المغربي ويستعرض حرس الشرف ويحيي العلم، وقفل راجعا إلى صالون المطار، واستقبل ضيوفا آخرين من الزعماء والرؤساء العرب، وترك معمر القذافي في طائرته حتى وقت متأخر، حيث اضطر إلى النزول واستعرض الفرقة العسكري وأدى تحية العلم، وقدم اعتذاره للحسن الثاني بأنه لم يكن يريد أن يتعب جلالته، وبأنه لا يعرف أصول البروتوكول بالمملكة!

إذا تماديت في احتجاجك، فسأكون مجبرا على شوائه في السفود

الردود الفرعونية على كل من تجاوز حدود المسموح به لم تكن تتعلق بالسلاطين لوحدهم، بل برجالات المخزن كلهم، في علاقتهم بالأجانب، حتى في لحظات ضعف المخزن، فإن أنفة رجاله وإحساسهم الإمبراطوري ظل مستمرا، وهذه قصة طريفة للحاجب الملكي باحماد لحظة وفاة المولى حسن الأول ومبايعة ابنه المولى عبد العزيز، حيث أصبح الرجل الأول في السلطة، إذ عين نفسه وزيرا أول، وبدأ يفتك بمعارضيه، وهنا حدثت نكبة آل الجامعي، والعربي الزبدي الذي كان مقربا من السلطان الحسن الأول ورجلا ذا نفوذ ودعم من طرف الألمان.

فقد قام باحماد بسجن العربي الزبدي قبل نفيه إلى آسفي، وهو ما دفع القنصل الألماني إلى أن يحتج على المعاملة السيئة للمخزن الشريف تجاه من يحافظ على مصالح القوة الألمانية، وقد زار القنصل الألماني باحماد وتقدم له بملتمس لإطلاق سراح العربي الزبدي، فكان رد الوزير الأول المغربي:

ـ إذا تماديت في احتجاجاتك فسأكون مجبرا على شواء العربي الزبدي في السفود، لهذا أرجوك أن تترك هذا الموضوع جانبا، لأنك تتعلق بموضوع لن تجني منه كبير ربح لا أنت ولا غيرك، ومن الأحسن أن يبقى حيث هو الآن.

الحـوار الأثير بيـن بوحمارة الثائـر والسلطـان الغاضـب

بعد اعتقال الفتان الروكي بوحمارة، تم سجنه في قفص ثم وضعه أمام مولاي عبد الحفيظ الذي أقام احتفالا بفاس فرحا بهذا الانتصار الكبير الذي شغل مخزن مولاي عبد العزيز وأخيه بعده مولاي عبد الحفيظ بين نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، ويحكي لويس آرنو ما حدث في «زمن المحلات السلطانية» على إثر الحوار الطريف بين «الثائر» و «السلطان»، والذي يجسد أكبر تجلٍّ لأنفة رجالات المخزن ومعارضيهم في ذات الآن، فقد أنزل القفص أمام مولاي حفيظ الذي أخذ يتأمل صاحبه مدة طويلة، وكان ينظر إليه بدوره دون أن يقول أي شيء، وأخيرا بدأ الحوار بين الرجلين كالتالي:

ـ ما اسمك يا ولد الحرام؟

ـ الجيلالي الزرهوني

ـ لماذا انتحلت صفة أخينا مولاي امحمد منذ سنوات، وعارضت أخيرا أيها الكذاب سلطتنا رعاها الله؟

ـ لا يقع إلا القدر المكتوب

ـ فلماذا كنت تتجه نحو وزان؟

ـ لا تسألني أي سؤال لأنني لن أجيب عنه، لكن أعطني طعاما لأنني جائع، وبعد ذلك سأعترف، لأنني أرى أن هناك أشياء كثيرة يجب أن نتحدث فيها.

فاستغرب السلطان من وثيقة هذا الرجل في نفسه، وأمر بإعطائه الطعام، وقدم له الخبز والسمن.

ـ هل هذا طعام يقدم إلى السلاطين؟

فرفض أن يأكل.

وأشار السلطان إلى حاجبه الذي أعطى أوامره، وبعد لحظات جاءه عبدان أمام القفص بطجينين من لحم الدجاج والغنم، فكان بوحمارة يأكل كثيرا، وببطئ، والسلطان ينتظر دائما، وطلب شايا فأعطيه، ولما رشف آخر رشفة قال له مولاي عبد الحفيظ:

ـ حسنا فقل لي الآن بعد أن امتلأت بطنك لماذا ذهبت عند جبالة؟

ـ لقد كنت ذاهبا إلى مولاي عبد السلام، لأنه ثمة كان من الممكن أن أتفاوض معك.

ـ كيف؟ ألا تستحي من تصرفاتك؟

ـ لست أستحي من تصرفاتي، كما لا تستحي أنت من تصرفاتك، فكلنا من أسرة واحدة، فنحن الاثنين روكيان.

ـ فإذا كنت أنا روكيا، فإنني لم آت من دوار في الجبال أمتطي حماراً، وأطالب بعرش فاس، فأنا من أسرة السلطان المنحدر نسبه من علي بن أبي طالب، وأنا بفضل الله ورسوله هنا هو السلطان.

ـ نعم، هذا صحيح، لكن يبدو لي أنك تحتقرني كثيرا وتعاملني كراعي أغنام، أنا متعب وأريد أن أستريح رغم آلام الأغلال في رجلي، فلا داعي للإطالة في الكلام، فإما أن تطلق سراحي وتضمني إلى جانبك أشتغل معك، أو تعدمني، فلو كنت مكانك وكنت مكاني، فإنني لن أفكر سوى في هذين الحلين.

ولم يتدخل السلطان، كما لو أن بوحمارة هو الذي يتحكم في الحوار.

ـ اطمئن، فأنا لا أقتل وأشوه أجساد أمثالك.

وقد حاول سيدي عبد القادر الفاسي أن يسأله، لكنه أجابه:

ـ «لن أجيبك، فأنا لا أتحدث أبدا مع غير الملتحين».

وقد انتهى الأمر بقتله بطريقة بشعة.

أنا هو السلطان هنا وليس أحد غيري، ولي وحدي حق عقاب المتمردين كما أريد

بعد القضاء على ثورة الزرهوني الجيلالي الملقب بـ «بوحمارة» تم اعتقال كل من كان معه، وعذبوا بشراسة، وصدرت في حقهم إعدامات بلا انتصاب محاكم، وتم تعليق رؤوس المعارضين بأبواب فاس، وقطعت أرجل وأيادي وألسن العديد من الأسرى، وهو ما أثار حمية العديد من الدول الأجنبية الكبرى، فقرر قناصل القوات الأجنبية مفاتحة السلطان في موضوع التعذيب والعنف الدموي، وطلبوا منه «باسم الإنسانية والتحضر أن يكف عن هذه التصفيات البشعة»، وهو ما لم يكن ليعجب السلطان الذي انتفض في وجه سفراء الدول الأجنبية ثائرا:

ـ أنا هو السلطان هنا، وليس أحد غيري، ولي وحدي حق عقاب المتمردين كما أريد، وإنما أنا أطبق شرع الله الذي قال في محكم كتابه: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض» (المائدة).

أبو العباس المنصور يقتل أحد شرفاء سجلماسة بطريقة جد غريبة

يورد المؤرخ المغربي بن عبد الله الوفراني في كتابه «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي» حكاية السلطان أبي العباس المنصور والفقيه الورع أبي محمد مولاي عبد الله بن علي بن طاهر الحسني، أحد شرفاء سجلماسة، حيث استدعى السلطان الفقيه التقي إلى قصره، ولأن مولاي عبد الله بن علي كان من الزهاد فقد كان يحب الجلوس دوما على الأرض مباشرة، فتواضع السلطان وجلس على الرخام بدوره واضعا نعله تحته، وكانت أمامهما مائدة ممتدة في قصر السلطان بمراكش، فخاطب أبو العباس المنصور الفقيه السجلماسي: «أين ألتقي وإياك؟»، أي أنه لا يقل زهدا وورعا عن الصوفي السجلماسي، لكن هذا الأخير قال: «حول هذه السفرة».. أي تجمعني وإياك هذه المائدة فقط ولا شيء مشترك بيننا، فاستشاط المولى أبو العباس المنصور غضبا، لكنه أسرها في نفسه، وقرر الانتقام عبر قتل الفقيه الذي أهانه ومس أنفته بالحيلة الجهنمية التي لا تخطر على بال.

فقد أخذ السلطان يستدعي الفقيه إلى مجلسه في فصل شتاء شديد القر، فأخذ السلطان يقتعد رخام المجلس، وكان قد احتاط بأن حشا نعليه بفراش من لبد يقيهما لسعة البرد، وجلس الفقيه السجلماسي على نعله، وكان السلطان يطيل هذه الجلسات وهو يسأل الفقيه العالم عن أمور الدنيا والدين، ومضت الأمور أياما على هذه الشاكلة، حيث تسرب البرد إلى أمعاء أبي محمد مولاي عبد الله بن علي بن طاهر الحسني، ولم يلبث أن مات من أثر البرد.. هكذا يصبح اللعب اللغوي والانزياح البلاغي ماسا بأنفة سلطان وجالبا للموت والهلاك.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق