قصة قصيرة جدا: عَرَقٌ

4 يوليو 2020آخر تحديث :
قصة قصيرة جدا: عَرَقٌ

أريفينو ك 4 يوليوز 2020.

ميمون حرطيت*

كما هي عادته بعد كل عِشاء، وضع “حمو” رأسه على وسادته المتحجرة؛ وعوض أن يسقط هامدا بسبب العياء اليومي، راح خياله يهندس ليوم غده: ها هي ذي الشاحنة العملاقة، يحاول سائقها ركنها على الرصيف القريب من باب المخزن ، ولكي يتم ذلك على المقاس، تعمل أنت على مساعدته لتحقيق ذلك، تماما كما تفعل زوارق مراصفة السفن في الموانئ، أو إخراجها منها. .صديقك الذي سيتكلف معك بإفراغ الحمولة، صعد كالقط على متن الشاحنة؛ هو يعرف لماذا فعل ذلك؛ وفيما رحت تفك أبازيم أحزمة غطاء الخيش، بدءا من مؤخَّرة الشاحنة، انبرى زميلك إلى طي الغطاء السميك رويدا رويدا ! الشمس بالكاد استفاقت من سباتها، آه يا “حمو” ! ستظل ترسل عليك شواظها اليوليوزية لكي تدوخ، لكنك عنيد، ولن ترضخ، أنت تعرف كيف تقاومها…
مئات الأكياس الإسمنتية المسندة إلى بعضها في تراص، تنتظر بشغف متى يحين دورها لتركب على عاتقك. تبحث عن كيس اسمنت فارغ، تقعّر نصف قاعدته في آخَرَ، ثم تضعه على راسك لتقي جسمك من غبار الإسمنت الذي سوف يتناثر ويتطاير، كم من كيس سيرقص على كتفك أو عاتقك في هذا النهار الحارق، ها أنت ذا تذهب وتجيء من وإلى المخزن، مثقلا وخفيفا، ها هو العرق قد شرع يغزو مسامك، ، ليعبر بلا حرج من جبينك إلى عنقك، تأخذ- وأنت عائد بنفس وتيرة خطوك نحو الشاحنة “الغولة”- خرقة قماش تمررها على أطراف من جسدك، ، يعمل بعض المارة على تحاشي الأصطدام بك، فتشكرهم في قرارة نفسك، بينما لا يأبه بك آخرون فتضطر لتجنبهم بتقصير خطوك، ومنهم من تثيره طريقة أدائك للمهمة فلا يمر دون أن يلتفت إليك، متأسفا، أومواسيا، أو منبهرا بخفتك..
ها هي ذي الشاحنة قد فرغ نصفها ، وها هو المخزن قد امتلأ بعضه، الشمس هناك في الأعلى وكأنها تنيش عليك، لكنك وقد سخنتَ إلى حدود الاحتراق، لم تعد تبالي بها، قميصك الحائل اللون قد ابتل عن آخره. والتصق به غبار الإسمنت فأعطاه لونا غير موجود في تصنيف الألوان، وحدك تعي هذا الإحساس بالدوران في المكان ، المثقل بالرتابة، والعياء، لكنك لن تتوقف عن هذا الروتين السيزيفي؛ وإن لم تكن مثل سيزيف، فأنت لست ماكرا ولا خبيثا؛ أنت أكثر من حقّاني، وستنتصر على ألفي كيس من الإسمنت اللعينة أو يزيد، ها قد شارفت على إنهاء مهمتك الأولى، لديك الآن مهلات لاسترداد الأنفاس التي تأبى الرضوخ ؛ دور زميلك ليشقى، بسحب الأكياس من مقدمة الشاحنة إلى مؤَخَّرتها، متكئ أنت على حافة مستوعب الشاحنة، هبات نسيم تدغدغ مناطقك المفرطة التعرق، تسكب في جوفك كأس ماء، فَيَنِزُّ العرق مدرارا، من مسام جسدك… تشرئب جهة الطريق، فتبدو لك شاحنة ثانية زاحفة، لتبدأ معاقبة الألم في ذاتك ، من جديد…
لم يدر كم كان الوقت حين أحس بالنعاس يراود عينيه، فنام.

*أستاذ متقاعد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق