منبر الرأي: “رموروذ” في الريف..حكايات من زمن طقوس “الحضرة” و ” الجذبة” ؟؟

3 ديسمبر 2017آخر تحديث :
منبر الرأي: “رموروذ” في الريف..حكايات من زمن طقوس “الحضرة” و ” الجذبة” ؟؟


بقلم: عبد الكريم بن شيكار

في ذكرى عيد المولد النبوي الشريف
قال الشاعر:

لكل داء دواء يستطيب به • إلا الحماقة أعيت من يداويها.

أعادتني ذكرى عيد المولد النبوي الشريف أو “رمروذ” لهذه السنة إلى ذكريات طفولية ما زالت طرية في الذاكرة بكل تفاصلها، إذ أنني أذكر أن بالأمس البعيد كانت تسود هذه المناسبة الدينية أجواء احتفالية بالناظور لم يعد لها وجود في يومنا هذا، إلا في ذاكرة من عاش تلك الفترة من جيلي ومن الاجيال السابقة عنا.

وهذه الذكريات التي احدثكم عنها، يا ساد يا كرام، تعود بنا إلى سنوات الثمانينات و أوائل التسعينات من القرن الماضي.

وسيرا على العادة كانت بوادر الاحتفالية الموسمية بهذا العيد تدق أبواب البيوت قبل موعدها بأسابيع وذلك بانتشار فرق العيساوية في الارض يبتغون من فضل الناس، فكانت نقرات الطبول وصوت الغيطة يتردد صداها في كل مكان تقريبا خلال تلك الفترة الزمنية ما قبل العيد.
كانت هذه الفرق العيساوية تجوب أزقة الاحياء الشعبية و دروبها في موكب عدد أفرادها لا يتجاوز أصابع اليد الواحد وهم يعزفون موسيقى صاخبة تملأ كل الأسماع والأرجاء، وهذه الامور لازالت تتكرر لدى كل ذكرى عيد المولد النبوي.

وكان حين تسكن حدة المزامير ويكف الطبالين عن ضرب طبولهم بين وقفة و أخرى، وكان الترقب لا يستغرق منهم وقتا كثيرا، ينبري مقدم الفرقة بالتسول” معروفا” بكلمات معينة فيها دعاء صالح وبعد ذلك ينصرفون إلى باب آخر وهكذا دواليك. وكان ينالهم العطاء في أغلب الأعم، وأحيانا يطلبون المزيد !.

وكنا نحن أطفالا نرقب المشهد في اندهاش وفضول مشدودين بإعجاب ويهالنا منظرهم حين نلتقي بهم في الطريق أو مارين على بيوتاتنا التي نسكنها، وهم يباشرون العزف على الغيطة و يدقون على الطبول. وما تزال صورة تلك الامهات أمام عيني اللواتي كن يتوسلن أمامهم لطلب البركة أو للاستشفاء من مرض عضال أو معالجة مشكل استعصى حله. كما كان هناك بعض الآباء يقدمون أطفالهم على أعتاب البيوت لمقدم الطائفة ليمسح بيده أو بهُدب من الاثواب المعلقة على “العلم” على رؤوسهم ووجوههم لتحل بهم البركة أو تيسَّر لهم الامور الصعبة وهذه الملامسة في اعتقاد هؤلاء الآباء تحمل بركة (الشيخ الكامل) و لهم فيها أيضا شفاءمن كل الامراض المزمنة التي تسببها الارواح الشريرة وبالأخص للمصاب بعين الحسود و سوء السعد و.. و.. ومثيلاتها من الأمراض التي تدور في دوامة ما ذكرناه آنفا.

في هذا الظرف الزمني الذي أحكي عنه في هذا المقال، كانت تراودني دائما في مخيِّلتي، وأنا أشاهد تلك الفرق العيساوية تجوب حيِّنا، ما كان يحكيه لنا أجدادنا من حكايات عجائبية عن الطقوس الغرائبية الخارقة للعادة التي كانت تمارسها الفرق العيساوية بالزاوية العيساوية سيدي مَحمد اعيساوي بدوار امرابظا ببني شيكار التي كانت ولازالت تحيي ذكرى المولد النبوي الشريف منذ ما يزيد عن أربعة قرون.

إلى جانب هذه الزاوية العيساوية المذكورة أعلاه، يوجد فرع آخر للزاوية العيساوية ال ” الشيخ الكامل”(وهوالهادي بنعيسى المتوفي في 1524م ودفن بمكناس)، وهي موضوع حديثنا، بنيّت حديثا في أواسط الستينات “التي شكلت عودة المراسيم السنوية الكبرى التي يكتفل بها أضرحة الأولياء الكبار في البلاد.”(كتاب الشيخ و المريد لعبد الله الحمودي)على بعد أمتار من مقبرة مولاي بغداد بحي اصبانن.
حركيّة ملحوظة بباب هذه الزاوية.. دخول و خروج.. وجوه جاءت من كل فج عميق.

هذا اليوم هو يوم ما قبل عيد المولد النبوي الشريف، الساعة، الآن،تشير بالتقريب إلى العاشرة والربع صباحا، موكب بصوت العيطة و الطبل في طريقه إلى الزاوية العيساوية يتقدمهم شخص يسوق ثورا، وعربة لنقل البضائع تسير خلفهم بها مواد تموينية إنه هدية “الشريفة” للزاوية كالعادة، و”الشريفة” هاته، وهي امرأة يقولون عنها العارفون بخبايا الأمور أن لها حظوة كبيرة في هذه الزاوية و يقولون أيضا والله أعلم تمارس علاج السحر وما لا يحصى من الامراض المعقدة.

الموسيقى المصاحبة لهذا الموكب تنشر أصداؤها في كل مكان وتعطي للموكب نفسا روحيا جذابا، لذا كان هناك بعض المرافقين لهذا الموكب يجذبون بشكل يقصر عن وصفه اللسان، وكان مروره مثيرا للانتباه.
وكنا ،نحن الاطفال، نسرع حتى نبلغ المشهد ونقف على قارعة الطريق لنتأمله وهم مارين إلى الزاوية المعلومة.

هذه الذبيحة ستذبح بمجرد وصولها إلى عين المكان وأثناء ذلك ستقام في صحن الزاوية “حضرة” لمدة لا تطول كثيرا على شرف هذه “الهدية” على نغمات موسيقى روحية تسحر الألباب، مع ملاحظة لعادة تقاطر بعض العجائز من الرجال والنساء القادمون للزيارة و التبرك باللمة من مناطق مختلفة مجاورة لمدينة الناظور، حاملون على ظهورهم ما تيسر من ” الزيارة” التي هي في الغالب الأعم رزما من الشمع وقوتهم التي يمكن أن يقتاتوا بهاعند الحاجة.

وأذكر أنني، في أيام طفولتنا تلك، كنت أشاهد كيف كانت الساحة المقابلة للزاوية السالفة الذكر تعج بالخيام عشية يوم العيد، كانت الخيام تضرب بالبقعة القريبة من موقع الاحتفال كمطاعم شعبية متخصصة في بيع المأكولات و المشروبات والشاي وهي تستعد ليوم غد.

في ذلك المساء ستقام ليلة عيساوية صاخبة بمن حضر من الناس والمريدين، وستنشًّطها فرقة عيساوية كان من المبرمج أن تبيت تلك الليلة بالزاوية و كان صدى نغماتها تسمع من بعيد وكانت تستمر هذه “الليلة” إلى ما بعد منتصف الليل.

وفي الغد، تصبح أغلب المنازل المحيطة و المشرفة، من بعيد أو من قريب، على الزاوية مزينة بأعلام بيضاء كدلالة على الاحتفال بهذا اليوم السعيد.

كان للناس آنذاك، لنقل معظم الناس عادة وهي أنهم كانوا في صباح يوم عيد المولد النبوي الشريف يتناولون في فطورهم أكلة تسمى باللغة الأمازيغية الريفية ” أحربيض” ( و هي نوع من أنواع المعجنات) و بالدارجة المغربية يقال لها ” محمصة”.

أما نحن الاطفال في تلك السنوات البعيدة، فكنا نتوجه إلى حيث سيقام الاحتفال لاستطلاع الأجواء ولاكتشاف مظاهر العيد هنا وهناك منذ الصباح الباكر وفي جيوبنا ما تيسّر من عملة صفراء التي وفرناها خصيصا لهذا اليوم السعيد قبل حلوله بأيام معدودات، كنا نتحسَّس جيوبنا كلما وقفنا أمام حلواني ونحن نختار بين كل ما نرى من أنواع الحلوى، ما يناسب ما لدينا من الفرنكات.

في هذا الباب، أستحضر تلك العربات لبيع الحلوى و “لاضو” وطاولات لعب القمار، وكافة أنواع الباعة الجائلين الذين كنا نشاهدهم في الطريق التي يمرون منها، وهم يتحركون إثر بعضهم وهم يسابقون الزمن؛ كانوا يتوافدون على المزار لأجل احتلال المواقع المتقدمة التي ستحتشد بالناس عما قريب لضمان رواج تجارتهم أو حتى لا يصيبها بوار في هذه المناسبة الفرجية التي يحضر فيه الاستهلاك بكثرة.

وفي غضون ذلك، تبدأ مراسيم الاحتفال التي ستنطلق مع خروج أولى” الاعلام” الذي أصبح بالزاوية إلى خارجها أي إلى المكان المخصص ل”الحضرة” عند عتبة الباب ومع ارتفاع وتيرة العرض والفرجة حتى يشرع الناس في التجمع حواليهم لتكوِّن حلقة كبيرة بهذا المكان الذي يجري به الاحتفال المنتظر.

وفي وسط هذه الحلقة التي بدأت تكبر شيئا فشيئا، حلقة الجذبة و موسيقى الطبل و الغيطة و الاندماج الجماعي لأعضاء الفرقة العيساوية في طقوس “الحضرة” و ” الجذبة” تحت قيادة “مقدم” أو شيخ الزاوية المهاب الجانب، وكانت هذه الهيبة الكبيرة التي تحيط به، تدفع بعض البسطاء إلى تقبيل يديه والتبرك ببركته وأحيانا تصير هذه البركة بارزة للعيان تطبيقا لربما لقولة ” سيدي بنعيسى مول السر الظاهر”؛ فحين كان ينتهي أحدا ممن كانت تنتابهم الجذبة في حالة إغماء خائر القوى سواء من الرجال أو النساء في هذه الطقوس الصوفية الشعبية، عندئذ كنا نرى الشيخ يتدخل ببركته المزعومة وقدراته الخارقة فبمجرد أن يمسك بناصية المريد المغشى عليه و بلمسة خفيفة على الرأس يهدأ روع هذا الأخير ويسترد وعيه.

كما كانت تخص أيضا قدرات هذا الشيخ من تصل ذروة هياجه من مريديه/المرضى حد أن يشرط أحدهم جبينه بنصل سكين بشكل يبهر النفس، وهنا يتدخل الشيخ بسر قوة ملكاته الخارقة للعادة فيمسك بيد المريد “الجريح” والمدمي ثم يغيب به وقت من الزمن داخل بناية الزاوية الزاخرة أسرارا.. وماهي إلا لحظات حتى يعود” المجذوب” إلى الحلقة وهو سليم الجبين معافى من جروحه !على أحسن وجه بعدما كان مخضبا بدماء جروحه، حينئذ أرى الناس وقد هالهم منظره.

كيف يحدث هذا؟ الله أعلم.

وأمثال هذه الأحداث و الخوارق التي كانت تشكل يومذاك مظهر من مظاهر عيد المولد النبوي الشريف كثيرة ولا حصر لها. وأستحضر هنا حكاية روية لنا أبا عن جد على لسان الكثيرين مفادها أن راع كان يرعى غنمه في إحدى المراعي على مشارف الزاوية العيساوية بدوار امرابظا بآيت شيشار وكان ذلك اليوم يوم عيد المولد النبوي الشريف، و صادف أن مر من هناك بالقرب من هذا القطيع من الغنم موكبا حاشدا و”الحضرة” في أوجها، كان في طريقه الى الزاوية الهادرة هنالك على بعد أمتار حيث سيقام الاحتفال بهذا العيد السعيد. وكان يضمّ بين صفوفه من وصل به هياجه ذروته العنيفة، وبمجرّد اقتراب الموكب الذي كان يمر بالطريق من القطيع وفي لحظة جنون هب واحد من هؤلاء المصابين بالهياج الذي يغمره فخطف خروفا من وسط القطيع وما هي إلا لحظات حتى شوهد هذا الأخير يتمزق بينهم إربا إربا وافترسوه، وفي رمشة عين أصبح أثرا بعد عين.

وعن هذا الطقس الأساسي عند الطريقة العيساوية » يحكى أن وفاة الشيخ( ويقصد هنا الهادي بنعيسى) خلفت حزنا عميقا عند تلميذه – أبو الرواين- الذي دخل في جذبة عنيفة فمزق ثيابه وافترس لحم ماعز حي ونيئ، ويرجع أصحاب الطريقة إلى ما قام به – أبو الرواين- أصل ” الجذبة” و “الفريسة” « (الواحة الفنية 08 /ماي 1999).

في هذا الصخب المجنون كان الناس يتدافعون و يتزاحمون، الكل يريد أن يضمن لنفسه قسط من الفرجة عن قرب في هذا الجو الاحتفالي الخانق الذي كان يتسم بكثير من الغرائبية.

كان المزار يزدحم بالرائحين و الغادين، يتموج وأحيانا كر و فر واضطراب، بسبب الهجمات الشرسة التي كان يشنها رجال القوات المساعدة على الجماهير الحاشدة التي كانت تحاول الاقتراب أكثر من باب الزاوية أو محاولة التسلل إلى الداخل و لكل امرئ ما نوى.

في هذا البحر اللجي أذكر أنني كنت أشاهدعن كثب المواكب تفد تباعا، انغام الفرق العيساوية متصل، وصل بلا فصل، وكثيرا ما كانت تضم في صفوفها العشرات من الأتباع وأحيانا المئات، كانت الأمواج البشرية تتحرك إثر بعضها في الطرقات المفضية إلى الزاوية مثل نهر متدفق لتغوص في الأخير في حركة دائبة عند وصولها الى مرفئها حيث تجتمع كل المواكب. أحيانا بعض المواكب كانت تجذب أكبر عدد من الجماهير لأن هذه الأخيرة كانت ترى خوارق وأشياء لا تكاد تصدق؛ فهذا المريد يحرق لحيته الكثة بنار ذات لهب ولكنها تنعكس عليه بردا و سلاما ولا يصيبه أذى وذاك ينهش الصبار كنهش الجائع في رغيف خبز طري وغير ذلك من مظاهر الاحتفال الفرجوي الصوفي الخارق للعادة الذي كانت تقام أمام أعين عامة الناس الذين يقابل ذلك بحماس كبير، بهذه الطريقة الفرجوية أو إن شئتم قلتم الاستعراضية للكرامات إذن كانت تلك الفرق العيساوية تستولي على الجماهير الشعبية.

أما الخيام التي كانت تنصب هناك فكانت تعج بالزبناءفي وسط النهار وكنا نراها وقد امتلأت عن آخرها. كان الناس يجتمعون فيها لكؤوس الشاي و الشواء و لأطباق الطعام و هم فرادى او في شكل مجموعات ثنائية أو ثلاثية..

وعلاوة على هذا المشهد، الآنف ذكره، كان هناك عشرات من الحلوانيين بمختلف أنواع الحلوى بالإضافة إلى أصحاب طاولات ألعاب القمار بمختلف أشكاله وأنواعه أيضا، التي كانت تحتل بعض المساحات هنا وهناك، وكان يحتشد الناس حول هذه الطاولات بكثرة، وكثير منهم وبالأخص من كان يسيطر عليه الطمع ويحاول عبثا أن يربح شيئا من النقود وهو يسمع القمار يهتف بعبارات؛ أربح !.. أربح !.. أربح !.. وكان أغلب يخرج خاوي الوفاض إن لم نقل ينتهي به الأمر إلى حالة من الإفلاس التام.

الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف عند عامة الناس في تلك الحقبة كان على هذه الحال. الاحتفال بهذه الطريقة لايزال مستمرا حتى وقتنا الحاضر لكن ليس بالشكل الذي يجذب الحشود حوله كما كان من قبل أو لنقل لم يعد بذلك الزخم وبتلك الاستعراضات الصوفية الكبيرة التي كانت في تلك الثمانينات البعيدة، الإقبال قل كثيرا و أصبح ذلك الآن ذكرى من ذكريات السنوات الماضية ليس إلا. كان عدد “الاعلام” في ذلك الوقت يصل أحيانا إلى حدود الثلاثين علما وقد يزيد هذا العدد أو ينقص حسب المواسيم. هذا الامر اليوم يتجه إلى الاندثار إن لم نقل قد اندثر تماما.

وفي الختام سيأتي شيخ الزاوية بهيبته ويقف في وسط الحلقة ليرفع الدعاء أمام الحضور وهو بمثابة الإعلان عن انتهاء مراسيم الاحتفال وفي هذه الأثناء يكون كل من اعتراه الجذب قد صحا من سكرته الصوفية و بعد أن تكون الموسيقى و الايقاع قد سكت عن النغم المباح.

ثم بعد ذلك، تنصرف تلك الجموع إلى حال سبيلها و تنسحب جميع الفرق العيساوية إلى الداخل للاستراحة ولتناول طعام الغذاء.

وبخصوص هذا الامر اذكر أن بعض المُصرين على التسلل والاندفاع إلى الداخل بجانب رجال القوات العمومية الموجودة عند الباب بالمرصاد، كان بمجرد اقتراب هؤلاء المصرين على التسلل من الباب حتى تلوح عليهم تلك القوات العمومية بعصيها الغليظة والويل حينذاك لمن ثقلت سيقانه.
هكذا كان إذن طقس الاحتفال بهذا العيد الديني في ذلك الوقت.
وسبحان مبدل الاحوال.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق