حراك الريف.. عائلات تُركت بدون معيل ومعتقلون بتهم لا يعرفون متى ارتكبوها

15 يونيو 2017آخر تحديث :
حراك الريف.. عائلات تُركت بدون معيل ومعتقلون بتهم لا يعرفون متى ارتكبوها

الحسيمة – منير أبو المعالي

أحصت لجنة تتبع قضية معتقلي حراك الريف في مدينة الحسيمة حتى الآن، حوالي 45 شخصا موقوفا على ذمة التحقيق في الدار البيضاء، ونحو 40 آخرين يتابعون بالمحكمة الابتدائية في الحسيمة، وفضلا عن القياديين البارزين الذين تظهر صورهم باستمرار، فإن قوائم المعتقلين تضم أشخاصا آخرين تركوا وراءهم مأساة مضاعفة، لكن قصصهم غير معروفة.. حتى الآن.

مسرعا، وبنظرات حادة، دلف إلى مقر نقابة الاتحاد المغربي للشغل في تلك الساعة المتأخرة من ليل الأحد، ثم صعد الدرج نحو الطابق الثاني بخطى ثقيلة. هناك، كنا قد أنهينا للتو مقابلة أنا ووالد أحد الموقوفين الذين يحاكمون بسبب تهم تتعلق بالتظاهر غير المرخص به بالمحكمة الابتدائية في مدينة الحسيمة. كان محمد، والد عبد الله بلقيش يشعر بالأسى، لأن ابنه شكل حالة خاصة في وضع استنثائي ميزته ما يوصف من لدن الكثير من أعضاء لجنة تتبع قضية المعتقلين في المحاكم كتوقيفات عشوائية من لدن الشرطة عقب أحداث الجمعة يوم 26 ماي الفائت.

تصوير تحول إلى رشق بالحجارة !

عبد الله بلقيش هو ذلك الشاب الذي ظهر في فيديو على “فايسبوك”، وهو يبث بشكل حي، مشاهد الوجود الكثيف لرجال الشرطة وسط الحسيمة من على دراجة نارية قبل أن يعترضه رجل شرطة ويقتاده إلى مقر الأمن الذي يبعد فقط بحوالي 10 أمتار من الزقاق حيث كان يمر. الشاب البالغ 26 عاما، والذي يواجه في الوقت الحالي تهما تتعلق برشق القوات العمومية بالحجارة والتظاهر غير المرخص به، يعمل في فرع شركة لصناعة الفطائر تدعى Bipan، توجد في الدار البيضاء، ووصل إلى مدينته الأصل قبل خمسة أيام من أحداث الجمعة حيث يقضي كعادته شهر رمضان من كل عام برفقة عائلته. لكن لم يدر في عقله أن مصيره سيكون السجن.

والده، الذي كان يبدو متعبا، أخبرنا أن عبد الله غادر بيته بحي بوجيبار البعيد عن وسط المدينة بحوالي كيلومترين، في حوالي الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة بمعية أحد أقربائه على متن دراجة نارية كي يقتني بعض المواد التي تستخدم لإعداد وجبات شهر رمضان، وقرر في طريقه أن يوثق وجود الأعداد الكبيرة لأفراد قوات الشرطة في وسط المدينة باستعمال هاتفه. “كنت ما زلت في عملي، فأنا أعمل لوقت متأخر كعمل بناء، وهو أخبر والدته بأنه سيذهب بمعية قريبه إلى وسط المدينة كي يتسوق بعض مقتنيات رمضان، وعندما عدت، أخبروني بأن الشرطة قد أوقفته، ولم أره بعدها سوى في السجن”.

ما حدث لعبد الله وثقه شريط الفيديو الذي كان يبث بشكل حي على حسابه في الفايسبوك، وبقي البث مستمرا حتى وهو داخل مقر الشرطة. كان يصرخ بأنه لم يرتكب أي شيء بوصفه مواطنا، لكن ضابط شرطة سرعان ما سحب منه الهاتف وأقفله منهيا بذلك البث الحي. “كان اعتقالا عشوائيا بكل بساطة”، كما يقول والده، فالشرطة كما يضيف، “أزعجها تصوير تلك المشاهد، لكن وإن كان ما بدر من ابني عملا متهورا في تلك الحالة الاستثنائية، إلا أنني لا أعرف كيف يمكن أن يتول إيقافه بسبب تصوير شريط، إلى تهمة رشق القوات العمومية بالحجارة.. لقد حافظت على رباطة جأشي كثيرا وأنا أتحمل رؤية ابني مسجونا بسبب شيء لم يفعله”.

ذهب محمد لزيارة ابنه في السجن بعد أن أحيل عليه من لدن النيابة العامة، وكانت تلك فرصته ليعرف ما يحدث بالضبط: “لقد أخبرني بأنهم كانوا يحاولون إجباره على منحهم القن السري لحسابه على الفايسبوك، لكنه رفض فعل ذلك. ولم يسر إلي بما إن كان قد تعرض لسوء معاملة، غير أني شعرت به مصدوما، وأيضا مرتعبا”. كان الوالد يتحدث بلغة عربية فصيحة، وهو يقتبس أقوالا مأثورة لكارل ماركس (صاحب النظرية الماركسية)، وبعض أبيات الشعر، ونصوصا من القانون، بغرض إثبات أن ابنه كان ضحية ممارسات غير مقبولة. وبالرغم من كونه لم يتعلم يوما في مدرسة، إلا أن محمد كان يظهر مطلعا على ما يجري من حوله: “قضية ابني لوحدها تكاد تجعلني في مرتبة الطلاب الحاصلين على الإجازة في القانون، فقد علمني هذا الواقع المرير شيئين مهمين؛ أنك تعرف طبيعة المحاكمة التي يتعرض لها ابنك، وأيضا أن تتيقن من أن نصوص القانون هذه في غالب الأحوال لا تصلح كي تطبق على حالة ابنك”. ويعتقد الوالد بشدة أن “وضعا استثنائيا” يسود محاكمات معتقلي حراك الريف ويقول: “لا أشعر بالتفاؤل بتاتا مما يجري من حولي، وقد رأيت عددا هائلا من المحامين يدافعون عن ابني وباقي المعتقلين، لكن المحكمة تصرفت وكأنها لم تسمع منهم كلمة. ولجلستين متتاليتين، تيقنت من أن الحكم قد صدر ضدهم، وما يدور الآن ليس سوى عملية للحفاظ على الشكليات”.

متهم رغم حجج الغياب

توجد حالات إضافية تشبه قصة عبد الله بلقيش، حيث تزعم عوائلهم أن الشرطة أوقفتهم من دون أن تكون لديهم أي صلة بأحداث الجمعة، وفي بعض الأحيان، حتى بحراك الريف نفسه. خير الدين شنهوط أحد هؤلاء كما يقول والده حسن في مقابلة  . فهذا شاب يبلغ من العمر 23 عاما، ويعمل صباغا، وجد نفسه بغتة ملاحقا بتهمة رشق القوات العمومية بالحجارة في ذلك اليوم، بالرغم من أنه لم يكن موجودا في مكان المواجهات قرب منزل ناصر الزفزافي.

بحسب رواية والده، فإن خير الدين كان موجودا في بيته بحي بوجيبار طيلة ذلك اليوم، وكان يقوم بأعمال صباغة لبعض أنحاء البيت: “لقد استيقظت في حوالي الساعة الثانية عشر من ذلك اليوم، وتفقدت ما كان يفعله، ثم تركته هناك، وفي حوالي الساعة الثالثة والنصف تقريبا، أنهى أعماله، وأخبرني بأنه يرغب في الذهاب إلى وسط المدينة. كان يشعر بألم في ساقه، ولذلك طلبت منه أن يأخذ سيارة أجرة بدل أن يسير على قدميه كما كان يفعل دائما. ومنذ ذلك الوقت، لم يعد إلى المنزل، ولم أعرف ما حدث له سوى في اليوم الموالي عندما أخبرني بعض الناس أن ابني مسجون لدى الشرطة”.

أصبح خير الذين الآن ملاحقا بتهمة رشق القوات العمومية بالحجارة في مكان وزمان كان فيهما موجودا بعيدا عن مكان المواجهات: “كان ابني يعمل ذلك اليوم برفقة عامل آخر، وسيشهد لصالحه إن قبلت المحكمة، وقد وكلت محاميا ليدافع عنه، كما أني ما زلت أبحث عن سائق سيارة الأجرة الذي أقله ذلك اليوم كي يشهد بدوره لصالح ابني.. أرجو أن تكون حجج الغياب هذه كافية لحصوله على براءة”. وما حدث على وجه التحديد لخير الدين، كما يحكي والده، تطور من سوء تدبير خلاف بسيط بينه وبين رجال شرطة: “في حوالي الساعة السادسة، غادر ابني المقهى، والتقى خارجها ببعض رفاقه، وبقوا واقفين هناك يحملقون في سيارات الأمن وهي تجوب الشارع، وحينها تقدم نحوهم رجل شرطة وطلب منهم المغادرة، لكن ابني لم يستسغ ذلك، ورد عليه بأن من حقه أن يقف حيثما شاء، وتلك كانت غلطته، لأن ضابط شرطة آخر، كما قال لي رفاقه، تدخل في الأمر، وطلب من ابني بطاقة تعريفه الوطنية، لكنه لم يكن يحملها، فاقتاده الضابط إلى داخل مقر الشرطة بدعوى التحقق من هويته، لكنه لم يخرج من هناك”.

وسيروي خير الدين لاحقا لأبيه عندما سيزوره في السجن المحلي بالحسيمة، كيف أصبح متابعا بتهمة لم يرتكبها كما يدعي. في مقر الأمن، أعد له محضر يتضمن اعترافا منه بمشاركته بقذف الحجارة على القوات العمومية في حي سيدي عابد ذلك اليوم. ولأنه لم يكن موجودا هناك، فإن والده سيستغرب كيف سمح لنفسه بالتوقيع على محضر يتضمن اعترافا غير صحيح: “كيف فعلتها؟ سألته، لكنه أخبرني بأن الشرطة المحلية، وإن لم تعرضه لأي تعنيف، هددته بأن ما يفصل بينه وبين ترحيله إلى مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية هو توقيعه على المحضر الذي أنجزوه، وقد كان يشعر بالرعب من فكرة ترحيله إلى هناك، فوقع على المحضر بكل ما ورد فيه”.

وعلى عكس محمد بلقيش، فإن حسن شنهوط ما زالت يملك بعض الثقة في أن ابنه سينال البراءة، وحتى وإن لم تأخذ النيابة العامة بعين الاعتبار إنكاره لمضامين المحضر الذي وقع عليه، فإنه يعتقد أن المحكمة ستفعل ذلك، ويقول: “من الصعب علي توقع كيف سينتهي الأمر بالنسبة إلى ابني، لكني أشعر ببعض التفاؤل، ودونه، سيكون صعبا علي حتى أن أنام في وقت يوجد ابني البريء في زنزانة”.

مهما كان دورك.. ستعتقل !

لا تختلف قصص المعتقلين الموجودين في سجن الحسيمة بسبب حراك الريف، عن تفاصيل مع حدث لكثير من رفاقهم الآخرين الذين رحلوا إلى الدار البيضاء بمجرد توقيفهم. يوسف الحمديوي حالة نموذجية للمتظاهرين الذين وجوا أنفسهم ملاحقين بتهم ثقيلة بينما عوائلهم لا تجد أي سبب لذلك. في يوم الأربعاء 31 ماي الفائت، كان يوسف الذي يعمل كأستاذ في مدرسة ابتدائية ببلدة أمنود، يركب سيارة بمعية زميلته في العمل منطلقين من مدينة الحسيمة، فهذا الرجل البالغ من العمر 33 عاما، لم يكن يعتقد بأن الشرطة تلاحقه أيضا في سياق الاعتقالات المرتبطة بأحداث الجمعة. وفي مدخل البلدة، دلفت زميلته بسيارتها كي تملأ خزان الوقود، فقرر يوسف أن يترجل كي يساعد عامل محطة البنزين في صب الوقود. وفي تلك اللحظة بالضبط، طوقته فرقة من الشرطة، وصفدت يديه ووضعته داخل سيارة ثم غادرت. عمه فريد، الذي يتابع قضيته في الوقت الحالي وكأنها قضيته هو، قال لنا في مقابلة أجريناها معه، “إن الشرطة نفذت العملية بشكل سريع، حتى إن زميلة يوسف سقطت أرضا، ولم تستطع أن تقود سيارتها بعد ذلك”. ثم يضيف: “لقد ترك لديها حقيبة مليئة بفروض تلاميذه، فهو لم يكن يعتقد أن اسمه سيكون ضمن قائمة المطاردين بسبب حراك الريف”. ولاحقا، فتشت الشرطة منزله، وصورت كافة أغلفة الكتب التي كانت موجودة في خزانته. بالنسبة إلى عمه، الذي أصبح ناشطا الآن في لجنة تتبع معتقلي الحراك، ومدافعا عن قضية ابن أخيه بسبب الظروف الصحية السيئة لوالدي يوسف، فإن هذا الشاب “لم يفعل ما ينبغي أن يشكل أساسا لملاحقته، ثم توقيفه ومتابعته بتهم ثقيلة في الدار البيضاء”. ثم يوضح أكثر: “لم يدع يوسف يوما إلى التظاهر أو حرض عليه، فقد كان يشارك في المظاهرات مثلما يفعل الآلاف من الناس في الحسيمة، ولم يكن يجتمع مع قادة الحراك أو يتصل بهم، وبالنسبة لي، فإن كل ما فعله يوسف هو التظاهر بمعية آلاف الأشخاص المسالمين”. وترك يوسف وراءه زوجة وابنة صغيرة السن كان هو معيلهما الوحيد، فيما والده، محمد، مصاب بمرض في القلب، ووالدته تعاني من آلام شديدة في الظهر وبالكاد بإمكانها أن تتحرك، وهما حتى الآن، لم يستطيعا زيارته في سجنه.

من طلب منك أن تحمي المؤسسات؟

بعض المتظاهرين الآخرين كانت جريرتهم الوحيدة بحسب ما يقول أعضاء لجنة تتبع قضية معتقلي الحراك، هو أنهم كانوا يشكلون سلاسل بشرية لحماية المنشئات العمومية ومقار مؤسسات الدولة، وهذه حالة خالد بنعلي. هذا الرجل كان يعمل كحارس لمدرسة عمر بن الخطاب في بلدة بوكيدان على مبعدة بضعة كيلومترات من الحسيمة، وكان في كل مظاهرة يدعو إليها قادة حراك الريف، يُكلف بترتيب إجراءات الحماية، لكنه في الوقت الحالي، ملاحق بتهم تلخص كل الأذى المحتمل أن يكون قد أصاب القوات العمومية ووسائلها.

ترك بنعلي وراءه زوجة وثلاث أبناء صغار السن، ووالدة مريضة كان هو معيلهم الوحيد. وقد شعر الرجل بأن الشرطة ستلاحقه هو أيضا، ولذلك، بقي طيلة عشرة أيام تقريبا وهو مختف عن الأنظار حيث كان يختبئ في بيت آمن نواحي الحسيمة، ثم قرر أن يعود كي يزود أسرته بالمؤونة الضرورية للاستمرار في العيش، فاقترح عليه ناشط أن يحضر إلى مقابلة مع صلاح الوديع الذي كان يقود فريقا مدنيا لجمع المعلومات حول حراك الريف، وبعدما أبدى موافقته، سيتصل به الناشط نفسه ليطلب منه أن تفادي الحضور احتياطا من توقيفه. وبينما كان يحاول المغادرة في سيارة أجرة، تمكنت الشرطة من تشخيصه في حاجز، فاعتقل على الفور ثم رحل إلى الدار البيضاء. ومثل خالد بنعلي، كان المصير نفسه يواجه أولئك الشباب الذي كانوا يشكلون السلاسل البشرية في المظاهرات، مثل بدر الدين بولحجل وزكرياء حقي. وبالنسبة إلى بولحجل، فإن هذا الشاب البالغ عمره 31 عاما، كان يُحضر هذا الشهر، لتوثيق عقد زواجه من فتاة تقيم في إسبانيا، فقد كانت هذه فرصته لتغيير حياته كواحد من الشبان العاطلين عن العمل، والمهووسين بالموسيقى، لكن وجوده في السجن الآن، سيحبط دون شك، هذه الآمال.

في القائمة الطويلة لمعتقلي حراك الريف، هنالك نماذج أخرى عن شبان تنطوي قصصهم على “مأساة” جانبية خلقتها حملة الاعتقالات، مثل محمد فاضل الذي كان طيلة عمر الحراك يسافر بمعية والده إلى الرباط لتلقي حصص من العلاج ضد مرض السرطان، وكان يخطط لإنشاء مشروع لغسل السيارات، أو نجيب البوصموسي ووليد قوقوش الذين كان بصدد إنهاء فترة التكوين كي يصبحا أستاذين متعاقدين في بلدة إيمزورين. وكما يقول فريد الحمدوي ملخصا كل هذه القصص، فإن “الخسارة فادحة.. خسارة شبان مفعمين بالحياة، ولكنها أيضا خسارة مجتمع محلي يخضع للتدمير على نحو فظيع بسبب كل ما حدث”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق