الدرس 3 لأعضاء الجماعة : توزيع الاختصاص في مجال التعمير ومتطلبات النموذج التنموي الجديد

5 يناير 2020آخر تحديث :
الدرس 3 لأعضاء الجماعة : توزيع الاختصاص في مجال التعمير ومتطلبات النموذج التنموي الجديد

اريفينو

لعل من أهم المآخذ والعيوب المسجلة على الإطار القانوني المؤطر للتعمير هو عدم وجود جهة واحدة تتولى مهمة التدخل والإشراف والرقابة في مجال التعمير. ولعل ذلك يظهر بوضوح أن التعدد والتضخم غير المبرر للأجهزة المتدخلة، هو الخاصية الأساسية لمجال التعمير في المغرب. فالإدارة المركزية بشقيها إدارة التركيز وإدارة اللاتمركز الإداري والجماعات (الجماعات الحضرية والقروية كما كانت تسمى سابقا)، والوكالات الحضرية، والسلطة المحلية ممثلة أساسا في مؤسسة العمال والولاة وباقي رجال السلطة وأعوانها، والوكالات المتخصصة بالنسبة لبعض المناطق كوكالة تهيئة بحيرة مارتشيكا بالناظور، إلى جانب جهات متعددة معقدة ومتنوعة الاتجاهات والمشارب، كلها تتدخل في مجال التعمير. بل الأكثر من ذلك كله، هو أنه حتى القوانين التنظيمية التي صدرت لتنظيم الجماعات الترابية، تنفيذا لما جاء به دستور 2011 بخصوص التنظيم الترابي للمملكة الذي أصبح قائما على الجهوية المتقدمة- لم تأت بأي جديد في مجال تعدد وتضخم الأجهزة المتدخلة في مجال التعمير، وإنما عملت على تكريسها. بل حتى النصوص الجديدة التي صدرت مؤخرا في ميدان التعمير كرست نفس الوضعية كالقانون رقم 66.12 المتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء.
إن الأجهزة المتدخلة في مجال التعمير، وعلى الرغم من وجود هدف مشترك تسعى إلى تحقيقه، وهو تحقيق حكامة المجال العمراني وعقلنة تدبيره، بالإضافة إلى العمل على ضمان حماية النظام العام العمراني، فهي تمارس عملها بشكل شبه مستقل عن بعضها البعض ولا يوجد أي تنسيق مسبق أو مخطط يقسم العمل بالتدقيق بينها. حيث تقوم بعض الجهات المتدخلة في مجال التعمير بنفس العملية على نفس التصرف أو الجهاز المحلي، أو بالأحرى الاختصاص في مجال التعمير. ولعل هذا الأمر نتيجة منطقية لعدم وجود أي مخطط أو برنامج أو تنسيق أو تعاون بين تلك الأجهزة، حيث غياب أي مقتضى أو نص أو مادة قانونية تنظم عملية توحيد وتنسيق الأعمال التي تقوم بها تلك الأجهزة المختلفة. بل إن ذلك الأمر قد ازداد استفحالا وتفاقما على مستوى الممارسة وذلك نتيجة غياب أي خطة وطنية أو جهوية أو إقليمية أو جماعية أو حتى قطاعية موحدة يتم وفقها توزيع الاختصاص العمراني.
ويعتبر حرص الدولة المغربية على مواكبة تطور التعمير الذي عرف مشاكل كبيرة نتيجة النمو الديمغرافي الهائل الذي عرفه المغرب، وعلى وحدتها وحماية الأموال العامة من سوء الاستعمال، وضمان صحة وسلامة العمليات الإدارية، من الدوافع المعلنة لإحداث وسائل وآليات متعددة ومتنوعة للقيام بمختلف عمليات التدبير العمراني في مجال التعمير. ذلك من الناحية السياسية والنظرية، أما في الحقيقة وعلى المستوى الواقعي، فإن الأمر لا ينحصر في ذلك. حيث باستقراء دقيق لمختلف العوامل والمعطيات والظروف التي تحيط بالتعمير يمكن التأكيد أن الحفاظ على المصلحة العامة، ليس هو السبب الوحيد الذي كان وراء تعدد المتدخلين في المجال العمراني. فالأجهزة والمؤسسات والجهات المتدخلة قد وصلت إلى حد كبير من التضخم، حيث التفريخ اللاعقلاني للهياكل ولأجهزة الإدارية، لأسباب ودوافع أخرى. أبرزها تغييب البعد الاستراتيجي والتخطيطي المقصود حفاظا على المصالح والامتيازات التي يوفرها ذلك التضخم والاختلال أو الانحراف لبعض المسؤولين محليا ومركزيا.
ولعل هذا الأمر المتعلق بالتضخم والإحداث اللاعقلاني للهياكل والأجهزة، يبدو واضحا، يؤكده الواقع، وليس من باب المبالغة. حيث يظهر من خلال جميع الإجراءات والتدابير التي تمت منذ الاستقلال، قصد ترسيخ وتثبيت القرى والحواضر المغربية، خاصة في شقها الإداري، ويظهر كذلك من خلال منهجية الإصلاح التي تم إتباعها وتنفيذها منذ تلك الفترة قصد تجاوز مظاهر قصور وعدم ملاءمة المنظومة العمرانية مع متطلبات التدبير العقلاني الرشيد.
ويعتبر هذا التعدد والتضخم في الهياكل والأجهزة، من أهم وأبرز المعطيات السلبية والمعيقات البنيوية التي تنطوي عليها منظومة التعمير بصفة عامة والتي -إن استمرت كذلك- ستصبح حجر عثرة في وجه تأسيس النموذج التنموي الجديد على الأقل في شقه المتعلق بالتعمير والعمران والمجال. وذلك نظرا لما تشكله مسألة التعدد والتضخم من مس بفعالية وجودة ونجاعة العمليات العمرانية في حد ذاتها. حيث نتيجة للتداخل والازدواجية غير المجدية ولا المبررة في المهام والاختصاصات التعميرية، أصبحت كثيرة ومتعددة بل ومتنوعة هي التأثيرات والمخلفات والتداعيات السلبية المترتبة عنها.
لقد أدى غياب أي تخطيط محكم وعقلاني لإحداث الأجهزة المتدخلة في مجال التعمير، إلى اتسام المنظومة العمرانية الحالية بالتضخم والتضاعف غير المبرر، وبالتقريبية أو التماثل في الاختصاصات الموكولة لها. وتلك الأجهزة نتيجة لذلك، لا تستجيب لمواصفات ومتطلبات الترشيد والعقلنة، ولا تحمل في طياتها المؤشرات والشروط التي تضمن الجودة والحكامة في المراقبة من أجل المساهمة الفعالة في تأسيس وتكريس وترسيخ النموذج التنموي الجديد. فهناك من الأجهزة، ما هو غير مبرر إطلاقا من الناحية العملية والممارساتية، لكون معظم مهامها أو بعضها تمارس من قبل جهات وهيئات أخرى، والتي هي أكثر منها تخصصا واتقانا للعمليات المنشودة. ومن ثم لا يمكن أن يكون وجودها إلا تبذيرا للمال العام وإهدارا للزمن التنموي، وضياعا لمصالح المواطنين.
ولعل الأدهى والأمر من كل ما سبق، هو أن القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية قد حملت هي الأخرى نفس المنطق العمراني، بخصوص كثرة وتضخم وتعدد الأجهزة المتدخلة. فرغم كون تلك النصوص القانونية قد جاءت بمستجدات متقدمة نسبيا، مقارنة مع القوانين التي سبقتها، فإنها تشتمل نقائص وثغرات كثيرة نأمل أن يتم تداركها في المستقبل القريب. لاسيما ما يتعلق منها بالإقرار الضمني لمسألة تضخم وتعدد الأجهزة الممارسة للاختصاص العمراني نتيجة تجاهل التنصيص على ضرورة تقليص تلك الأجهزة. فالأمر يتعلق هنا بتنظيم وتأطير للتنظيم الترابي الجديد الذي يقوم على الجهوية المتقدمة واللامركزية المتطورة، وعلى هذا الأساس لا يصح ولا يعقل ولا يستساغ أن يتم الإبقاء على ظاهرة التضخم في الأجهزة المتدخلة في مجال التعمير.
وعموما، يمكن القول أن مسألة التضخم والكثرة في الأجهزة المعنية بمجال التعمير وتعددها بالمغرب، مسألة جد سلبية. وتؤدي إلى ضياع الهدف من وجودها، الذي هو ضمان فعالية التدخلات في مجال التعمير، والحفاظ على المال العام من جميع التصرفات والسلوكيات المشينة. فإلى جانب هدر الزمن التنموي بفعل تعقد وتضخم المسألة التعميرية، هناك مسألة أخرى تتعلق بتحميل بعض تلك الأجهزة المسؤولية عن التقصير في الواجب للبعض الآخر، وبالتالي يحصل التضارب والتعارض والتنازع والتخبط حول من يجب محاسبته من الأجهزة في حالة الفشل. ومن هنا نؤكد أن العبرة -كما يقال- ليست بكثرة الأجهزة والوسائل واتساع رقعة اختصاصاتها، وإنما بمدى نجاعة وفعالية المنظومة العمرانية في الذود عن المصلحة العامة وعن الحكامة والنجاعة.
وأخيرا فإن هذا التضخم في المتدخلين وكثرة تدخلاتهم قد أدى إلى العديد من السلبيات، وليس أبرزها ما ذكر سالفا فقط، بل هناك سلبيات أخرى سيتم الحديث عنها في مناسبات قادمة.
إن تعدد المتدخلين في التعمير يطرح مشكلة التنسيق، وتؤدي السلطة المحلية دورا أساسيا على المستوى المحلي يتجلى في محاولة التنسيق بين كل المتدخلين في ميدان التعمير. فعامل الإقليم أو العمالة يعتبر الرئيس المباشر بالنسبة لرؤساء المصالح اللاممركزة للوزارات، و يلعب دورا مهما برئاسة اللجنة التقنية للإقليم أو العمالة المحدثة بموجب الفصل 5 من الظهير الشريف رقم 138- 75- 1 بتاريخ 15 فبراير 1977 المعتبر بمثابة قانون يتعلق باختصاصات العامـــل. وبالمقابل فإن المصالح اللاممركزة للوزارات والمؤسسات العمومية الممثلة في اللجنة التقنية تنفيذ برامج الوزارات الوصية والمجالس الإدارية المعنية. والوكالات الحضرية تخضع لوصاية الوزارة المكلفة بإعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان والبيئة، باستثناء الوكالة الحضرية للدار البيضاء. كما أن وزارة الداخلية تمارس وصياتها على الجماعات الترابية وعلى الوكالة الحضرية للدار البيضاء.
كل هذا التداخل وإن كان ضروريا للتنظيم الإداري وله مزايا متعددة يمكن تلخيصها في تخصص كل إدارة في نشاط معين، فإن عمليات التعمير نظرا لشموليتها وارتكازها على كل هذه النشاطات سواء منها الإدارية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو غيرها وحتى الممارسات الديموقراطية، تعاني من عدم الانسجام والتناسق بين أعمال الإدارة وبرامجها الزمنية من جهة وبين مخططات الجماعات المحلية وبرامجها التنموية من جهة أخرى. وبالإضافة إلى كل هذا فهناك ضعف موارد الجماعات البشرية والمادية والتي تشغل من طرف الإدارة لبسط نفوذها على التخطيط والبرمجة وكذلك التدبير، وخير مثال على ذلك التنافر القائم بين المجالس الجماعية والوكالات الحضرية في ميدان التعمير، الشيء الـذي أدى إلـى نهج سياسة شـد الحبل بين الجانبين مما يعرقل إنجاز المشاريع الاستثمارية، ويسبب في محاولة عدم الامتثال للقوانين وما يترتب عن ذلك من سكن عشوائي وتشويه للمجال.

المطلب الثاني: ضرورة تقليص عدد والأجهزة والهياكل المتدخلة في مجال التعمير
إذا كانت أول فكرة أو خلاصة يمكن أن يخرج بها الباحث أو المتأمل لمسألة توزيع الاختصاص في مجال التعمير بالمغرب، هي تضخم الأجهزة والجهات الممارسة لتلك الرقابة. مما ينعكس سلبا على التنمية وتدبير الشؤون العمومية، وعلى الرقابة والحكامة الجيدة بصفة عامة، ومما سينعكس مستقبل إذا استمر الوضع كذلك بشكل سلبي على النموذج التنموي الجديد، فإن المصلحة العامة والضرورة والمنطق الإصلاحي يقتضي أن أول ما يمكن القيام به لتحقيق النجاعة العمرانية، وتجنب عرقلة وإعاقة التنمية المستدامة والمنشودة، هو تقليص عدد المتدخلين.
إن تقليص الأجهزة المتدخلة في مجال التعمير ينبغي أن يشكل إحدى الخيارات الاستراتيجية للدولة من أجل النهوض بالحكامة الجيدة. ذلك أن أي سياسة تنموية تقدم عليها الدولة في عموم التراب الوطني، لا بد لها من سياسة عمرانية ملائمة مؤهلة وحديثة مرنة، قادرة على الدعم والدفع والمواكبة وتحقيق الأهداف التنموية. وذلك قصد التمكن من المساهمة الفعالة في الارتقاء بتدبير الشأن العام المحلي والوطني، ومن ترجمة المشاريع التنموية إلى أعمال واقعية وملموسة، ليستفيد منها في آخر المطاف المواطن المغربي باعتباره المعنى الأول والمستفيد من تجويد العمليات التنموية إذا تم، ومن الحكامة الجيدة عموما.
ولعل تقليص الأجهزة المتدخلة في مجال التعمير، سيمثل في المستقبل القريب هاجسا أساسيا، سيشغل بال كل الجهات الهادفة إلى المساهمة في تأسيس وتفعيل النموذج التنموي الجديد. بحيث ستطرح مسألة التضخم والتعدد في الأجهزة، العديد من الإشكالات ذات الارتباط العميق بمجمل التحولات التنظيمية والنظامية والسوسيو-اقتصادية التي ستعرفها بنية التدبير العمومي. وذلك نتيجة الإصلاحات المتعلقة بتضاعف الاختصاصات والصلاحيات في القوانين التنظيمية الصادرة لتنظيم الجماعات الترابية في المغرب مستقبلا. وفي سياق ذي صلة، تجدر الإشارة إلى أن هذه النصوص القانونية الجديدة الصادرة تنفيذا لمقتضيات دستور 2011 -ورغم بعض الإصلاحات التي جاءت بها- فهي لم تعمل على تقليص الأجهزة والمؤسسات المتدخلة في مجال التعمير كما كان منتظرا منها كما لم تعقلن الرقابة الإدارية عموما. ومن ثم لا يسعنا إلا أن نسجل ذلك على مضض، مع المطالبة بتدارك وتصحيح الوضعية في المستقبل القريب.
إنه وفي سياق التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية التي تضاعفت سرعتها وديناميتها، وفي إطار التحديات والمتغيرات المتعددة التي بات يفرضها النظام العالمي الجديد على المغرب. ثم في ظل التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي داخليا، حيث تضاعفت متطلبات التنمية ومستلزمات الحكامة الجيدة، فقد أضحت الدولة مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتبني استراتيجية إصلاحية وتحديثية دقيقة، لمنظومة التعمير. بحيث ينبغي أن تتسم بالشمولية والفعالية، والملاءمة والنجاعة المتوازنة مع المرونة. ولعل ذلك ليس من شأنه تطوير الأداء الإداري والتنموي فقط، وإنما بفعله أيضا سيتم السير نحو مدن وحواضر مواطنة خدومة عصرية وحديثة، قادرة على الانسجام مع أدوارها الجديدة والمشاركة الفعالة في التنمية الشاملة للبلاد.
بل إن من شأن تقليص وعقلنة وترشيد الأجهزة المتدخلة في مجال التعمير -وبدون مبالغة- أن يجعل من تلك الجماعات أشخاصا مدعمة ومبادرة، وقد تكون فعالة في دعم القضايا الكبرى للوطن، خاصة إذا تم بشكل متواز الارتقاء السياسي بالنخب المحلية. ومن ثم قد تتماهى الجماعات الترابية في المستقبل مع الدور الجديد المفترض أن تقوم به الدولة إزاء اللامركزية الإدارية الترابية في مجال التعمير، حيث من المفترض أن يقوم أساسا على الأبعاد الاستراتيجية والإشرافية والمواكباتية والتحكيمية فقط. وذلك تماشيا مع متطلبات المرحلة المتجلية أساسا في البحث عن نموذج تنموي جديد يتجاوز أعطاب الماضي، ومع المنحى العالمي الجديد، السائد اليوم حول مفهوم الدولة، حيث يتجه حتمية ولزاما نحو جعل دورها يقتصر على المساعدة والمواكبة للأشخاص اللامركزية في قضايا ومسائل التعمير بدل التدخل المباشر في عملية الإنتاج والتنمية المحلية، وعلى التقنين والتقويم العادل بدل مباشرة التسيير والتدبير.
وعلى صعيد آخر، وإذا كان التخفيف والتقليص الشكلي والعضوي للأجهزة المتدخلة في مجال التعمير له كل هذه الأهمية والأبعاد التنموية والتحديثية الداخلية والخارجية، فإن هذه المسألة المتعلقة بضرورة تقليص الأجهزة، ليست قضية إلغاء وحذف فقط. بل مسألة جد معقدة لابد لها من تخطيط واستراتيجية ودراسة معمقة لتلك البنيات والأجهزة والهياكل، حتى يتم التخلص والاستغناء على أقلها أهمية وجدارة وكفاءة. أو على الأقل -وإن لم يكن ذلك ممكنا- فالتخلص من تلك التي تمارس نفس الوظائف والصلاحيات، مع ترك أقلها تكلفة وأيسرها وطأة على الحكامة العمرانية. وبالرجوع إلى الواقع العملي والممارساتي، نجد أنه صحيحا هناك العديد من التقارب والتقريبية في مهام واختصاصات بعض الجهات الرقابية، بل تصل بعض الأجهزة والجهات أحيانا وفي بعض الحالات إلى حد التطابق والتماثل في الوظائف. وهو الأمر الذي يقتضي ويستلزم الاستغناء عن إحداها أو بعضها أو أكثر، -إذا كان هناك أزيد من جهة تمارس نفس الصلاحية أو الاختصاص- وذلك تجنبا لتضييع الجهود والوقت وإهدار الزمن التنموي وتفاديا للتكرار في الفعل العمراني الذي يكون أحيانا بدون جدوى. وهذا التضخم بالتأكيد لا يمكن أن يكون هنا إلا مسألة سلبية معيبة ومعرقلة، بل هو بعيد كل البعد عن الجودة والجدوى في التدبير العمومي العمراني عموما.
إن تقليص الأجهزة المتدخلة في المجال العمراني بالمغرب مسألة ضرورية وأساسية، وتهدف إلى تبسيط التدبير العمومي العمرني وتجويدها وتسهيل مسألة التعمير. ومن ثم تيسير الحياة اليومية للمرتفق وتيسير نشاط الوحدات المنتخبة عموما، ومطاردة التعطيل والتعقيد والبيروقراطية بمفهومها السلبي في تدبير الشؤون العامة المحلية. فالأجهزة الوصائية والرقابية المرغوبة في هذا الصدد على سبيل المثال، هي تلك التي تؤدي أفضل رقابة ممكنة بأقل مجهود ممكن وفي أسرع وقت ممكن، مع أقل تكلفة مالية وبشرية ممكنة وفي أفضل الظروف الممكنة. ومن هنا ولكي يكون الأمر كذلك، لابد من الترشيد والعقلنة الشكلية والموضوعية لمنظومة التعمير الموجودة حاليا، وملاءمتها مع متطلبات الفعالية والنجاعة، ومع مستلزمات التنمية المحلية المستدامة والحكامة الترابية المنشودة.
ولعل من أولى الجهات والمكونات المعنية والمطالبة بتقليص أجهزتها، هي وزارة الداخلية المشرفة على اللامركزية الترابية والإدارة المحلية المنتخبة. فإذا كان معلوما أن تلك الوزارة بمقتضى الإشراف هي المسؤولة عن الجماعات الترابية وتمارس عليها وصايتها بشكل مباشر، وهي عبارة عن مراقبة واسعة ودقيقة ومستمرة، بحيث تشمل جميع الأشخاص والأنشطة بالوحدات المنتخبة وفي مقدمتها التعمير. فلماذا تم استحداث كل تلك الأجهزة والآليات الرقابية الأخرى؟ وأيا كان الرد والجواب عن هذا السؤال، فالترشيد والعقلنة الرقابية يقتضيان حذف وإلغاء بعض الأجهزة، وإدماج بعض مهامها غير المالية ضمن اختصاصات ووظائف أجهزة أخرى. فوجودها إذا كان غير مبرر من الناحية العملية، لكون معظم مهامها أو بعضها يمارس من قبل الأجهزة والجهات الأخرى، التي هي أكثر منها تخصصا واتقانا للعمليات الممارسة، فإن اختصاصها لا يمكن أن يكون إلا مضيعة للوقت وهدرا أو تبذيرا للمال العام المحلي، الذي قد تكون مجالات أخرى في أمس الحاجات إليه. ومن هنا لابد من إعادة النظر في وجود أجهزة تلك الوزارة، أو بالأحرى في إطار الإصلاحات الهيكلية المراد مباشرتها قبل الدخول الفعلي في تجربة اللامركزية العمرانية والتعميرية المتقدمة والجهوية الموسعة.
ولكن في الحقيقة قبل هذا وذاك، لابد بل يجب على وزارة الداخلية إعادة النظر في مسألة تقاسم اختصاصاتها الوصائية مع ممثليها المحليين (العمال والولاة). تجاوزا لمشكلة التضخم والازدواجية في ممارسة تلك الاختصاصات وتدقيقا في تحديد المسؤوليات، بجعل الرقابة الوصائية من اختصاص مندوبيها الترابيين. وإذا كان هذا الأمر قد يطرح بعض الإشكالات والمخاوف أو الهواجس لدى الدولة كعادتها، في حالة منح الاختصاصات الوصائية بشكل مباشر من طرف السلطة التشريعية وبصريح النصوص للولاة والعمال، فإن الحل موجود وهو اللاتمركز الإداري، حيث يعتبر هذا الأسلوب دعامة أساسية لتحديث الدولة ومرافقها، ومن ثم ممارسة الوصاية من طرف سلطة عدم التمركز الإداري. فأسلوب اللاتمركز إلى جانب أهميته في تقليص هياكل المراقبة الإدارية خاصة على مستوى وزارة الداخلية (هياكل الإدارة المركزية)، فهو يمكن الجماعات المحلية، من اتخاذ القرار بالسهولة والسرعة المطلوبتين، نظرا لقرب الولاة والعمال من تلك الجماعات واتصالهم بها بصفة مباشرة ودائمة. أضف إلى ذلك أن فكرة تقريب الوصاية من الجماعات الترابية سيضمن إنجاز العمل الوصائي بدقة وفعالية أكثر.
هذا باختصار عن وزارة الداخلية وبعض ما يمكن بذله للتخفيف من التضخم، بتقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية التابعة لها، أما بخصوص الوزارة المكلفة بقطاع المالية الممارس الثاني لسلطات الوصاية على تلك الجماعات، فإنه ينبغي عليها هي الأخرى أن تقلص من هياكلها وأجهزتها المتدخلة في ممارسة الرقابة الإدارية على المالية المحلية. وهنا نستحضر أن تلك الوزارة تمارس رقابتها من خلال المفتشية العامة للمالية والخزينة العامة للمملكة، وكذا من خلال المحاسبين العموميين المضطلعين بمسألة المراقبة المحاسبية للعمليات المالية أثناء التنفيذ بشكل مباشر. ولا ظن أن الأمر هنا لا يستدعي ولا يتطلب تدخل كل تلك الأجهزة -خاصة إذا علمنا أن لها العديد من الاختصاصات المتكررة والمتقاربة- فمن أجل تكريس الجودة والحكامة الترابية أصبح لزاما على الوزارة المكلفة بالمالية أن تعمل على إدماج تلك الأجهزة الثلاث وحوكمتها مع ترشيد وعقلنة اختصاصاتها.
ولما لا يتم في هذا الصدد أيضا، السعي والتفكير بجدية في مسألة إدماج بعض مصالح وأجهزة الرقابة الإدارية التابعة لوزارة الداخلية، في تلك التابعة للوزارة المكلفة بالمالية رسميا -خاصة تلك التي تمارس رقابة مالية صرفة- فالرقابة المالية ذات الطابع الإداري في الأصل هي اختصاص صرف لوزارة المالية. والجماعات الترابية أشخاص معنوية عامة تخضع للقانون العام ويجب أن تعمل تحت إشراف الدولة بمفهومها النسقي المتكامل، وليس لوزارة الداخلية وحدها، التي ترتبط في المخيال الشعبي المغربي بالأمن وبالهواجس الضبطية أكثر مما ترتبط بأمور أخرى.
ولعله بذلك سيندمج العمل الرقابي الإداري على المستوى المحلي من خلال ضمان وحدة التمثيلية الرقابية أولا، ثم من خلال وحدة التمثيلية ما بين أجهزة وزارة الداخلية المكلفة بالرقابة الإدارية، ونظيرتها التابعة للوزارة المكلفة بقطاع المالية المتقاربة في العمل والأنشطة المزاولة، وذلك باندماج المصالح التابعة لها في بنية إدارية واحدة. وهذا الأمر ليس إيجابيا بالنسبة لتقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية لإرساء التجانس والتناسق والفعالية في النشاط الرقابي فقط، بل سيبسط النظام الرقابي على الجماعات الترابية عموما، كما سيمكن ذلك وفي نفس الإطار من تحديد مسؤولية الأجهزة المراقبة التي فشلت في أداء مهامها الرقابية قصد المحاسبة والمتابعة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


التعليقات 3 تعليقات
  • السعيدي.م
    السعيدي.م منذ 4 سنوات

    الدرس الثالث للأسف كلاما فقط عام لا ينم عن فهم جيد لقضايا التعمير على مستوى الجماعات ثم إن النضري ليس ما يتم سرده ولو بطريقة غير صحيحة وبشكل فضفاض بل إن الأساس هو الجانب الممارستي الدخول إلى دهاليز الأمور لأن ما يتم الحديث عنه مجرد أفكار متناثرة مبغثرة لا تنم للواقع بشيء للأسف .ثم إن منطق الدرس هو بعيد جدا عن ما يمكن أن نسميه احترام المخاطب لأن في المقال الذي وضعته أخطأ كثيرة وأمور تجاوزها التاريخ لذا يجب الرجوع لأهل الاختصاص والممارسة لكي تعرف بأن ما وضعته مجانب للصواب.؟ أعرف أن الموقع لن ينشره لكن أتنمى أن يتم إيصاله له .

  • جواد الخضيري
    جواد الخضيري منذ 4 سنوات

    “إعادة النظر في مسألة تقاسم اختصاصاتها الوصائية ” مقال قديم جدا لا يتم للواقع الحالي بصلة والدليل أن الوصاية تم التخلي عنها منذ 5 سنوات ومازال الدكتور يحدثنا عنها. المرجو أن تحيين معلوماتك وأن تتصل بالممارسين في المجال لتتأكد من القضايا الحقيقة لمجال التعمير بالجماعات .

  • حسن
    حسن منذ 4 سنوات

    عن اي تضخم وأي تدخل يا استاذي الكريم
    يبدو أنكم لا تطلعون عن الدوريات والمراسيم
    أما مصطلح التضخم فهو مصطلح اقتصادي لا صلت له بالتعبير
    أسلوب؟؟؟؟؟

لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق